أهداني الصديق الباحث والكاتب الصحفي صديق البادي - مشكوراً- كتابه الجديد، الذي جاء يحمل عنوان «الجبهة الوطنية.. أسرارٌ وخفايا»، كما اعتاد صديق أن يفعل مع كل إصدارة جديدة في مسيرة كدحه المتواصل وجهده المخلص، من أجل التوثيق لحياة السودانيين في مختلف المجالات التي تسترعي انتباهه ويرى ضرورة تسجيلها، وهذا فضلٌ منه يستحق الامتنان على المستويين الشخصي والعام. خصوصاً وصديق يقوم بكل ذلك الجهد في البحث والجمع والتوثيق والطباعة - كما أعلم- بالعون الذاتي ودون أية مساعدة تُذكر من أية جهة رسمية أو مؤسسة خاصة، أو هيئة منظمة، بل اعتماداً على الثقة بالنفس والإحساس بالواجب الذي يدفعه لتخطي الصعاب- المادية والمعنوية- الكفيلة بالإحباط والقعود والقنوط، مما مكنه من إصدار أكثر من أثني عشر كتاباً حتى الآن. موضوع كتاب البادي الجديد، الذي انتهى من العمل فيه في اليوم الأخير من الشهر الأخير من عام 2009 والذي يبدو أنه وبحسب الصعاب التي إليها أشرنا لم يتمكن من الدفع به إلى المطبعة إلا بعد مرور أكثر من عام من إعداده، هو موضوع في غاية الأهمية والحيوية لفترة من الحياة السياسية السودانية لاتزال تفعل فعلها وتتداعى بآثارها على حاضر الأمة تشكيلاً وتكييفاً. تلك الفترة التي شهدت الصراع السياسي بمختلف وجوهه العنيفة والناعمة بين نظام شمولي، هو نظام مايو بقيادة جعفر نميري والقوى السياسية السودانية بمختلف توجهاتها، مع تركيز خاص على «الجبهة الوطنية» التي جمعت الأحزاب السياسية التقليدية- الأمة والاتحادي والإخوان المسلمين وبعض القوى القومية الاشتراكية العروبية كالبعثيين. وقد بذل صديق- كما قال- قصارى جهده للوقوف على الحقائق الصحيحة والمعلومات الدقيقة بلا زيادة أو نقصان، وإبراز الحقائق كما هي عارية من كل المساحيق، وأشهد أنني من خلال قراءتي للنص وللطريقة التي اتبعها في الحصول على الوثائق والشهادات الحيّة لمن عاشوا تلك الفترة التي جمعها، ومن خلال ما أعلمه مما هو متواتر، أن الرجل قدّم عملاً جليلاً بوضع سجل أمين وموثق للحقائق المتصلة بتلك الفترة من الصراع بين «الجبهة الوطنية» ونظام نميري.بل أن جهده لم يقتصر على ذلك فحسب، بل أضاف إليه مقدمات ضرورية لفهم تلك الحقائق من خلال العودة إلى قصة نهاية الديمقراطية الأولى - التي أعقبت الاستقلال- والكيفية التي وصل بها نظام نوفمبر بقيادة الفريق عبود إلى السلطة، حتى يقدم صورة بانورامية للمشهد السياسي السوداني منذ مطالع الاستقلال وحتى سقوط نظام نميري، وأثر ذلك كله على واقعنا الراهن. اللافت حقاً، أن صديق البادي، لم يحاول مطلقاً إقحام نفسه في التحليل السياسي أو حتى التاريخي لتلك الأحداث الكبرى التي شهدتها البلاد، بل قَصَر جهده - وهذا ما يشكر له- على تقديم الأحداث والوقائع بشكل محايد، مما يفتح المجال أمام من يودون التحليل والتقييم أن يفعلوا ذلك من خلال «المادة الخام» التي وفّرها لهم ليتناولها كل محلل أو مؤرخ من الزاوية التي ينظر منها والمنطلق الذي يتبناه في معالجة تلك الوقائع والأحداث. يقع كتاب«الجبهة الوطنية.. أسرار وخفايا» في «207» صفحات من القطع المتوسط، وزين غلافه بوجوه عدد من الزعماء والرموز المعنية بالأحداث التي شهدتها تلك المرحلة: جعفري نميري، الصادق المهدي، الشريف حسين الهندي، حسن الترابي، محمد عثمان الميرغني، أحمد عبد الرحمن محمد، عمر نور الدائم، الرائد مامون عوض أبوزيد، ويتكون الكتاب من سبعة فصول:اهتم الأول بالصراع الحزبي الذي قاد لانقلاب نوفمبر، والثاني عن «الجبهة الوطنية» وكيفية تشكلها بعد انقلاب جعفر نميري، والثالث عن حركة شعبان الطلابية عام 1973م، والرابع عن حركة سبتمبر 1975م، والخامس عن حركة يوليو عام 1976م، والسادس عن المصالحة الوطنية. وطعَّم المؤلف الكتاب ببعض الصور التي رأى أنها ضرورية، أو تلك التي توفرت له و ذات صلة ببعض الأحداث المهمة، خصوصاً تلك المتصلة بالمحاكم التي جرت لقادة وعناصر الجبهة الوطنية التي قادت حركة يوليو 1976م. الكتاب يحفل فعلاً بالعديد من «الأسرار والخفايا» حول الشخوص والقادة وأدوارهم ومواقفهم، وكيفية إدارة الجبهة الوطنية لعملها وكفاحها من الجزيرة أبا إلى أثيوبيا إلى السعودية وليبيا، حتى انتهت إلى ما انتهت إليه من فشل قاد في مرحلة لاحقة إلى ما عرف «بالمصالحة الوطنية»، التي استفادت منها بعض القوى وتمكَّنت وخسرت جراءها قوى أخرى، وقادت في النهاية إلى إعادة تشكيل الخارطة السياسية السودانية وخلقت واقعاً جديداً، لازلنا نعيش في كنفه.. إنه كتاب يستحق القراءة، وقبل ذلك يستحق أن يجد طريقه إلى مكتبة كل متابع ومراقب أو محلل مهتم برصد الأحداث والتطورات، لأن بدونه فإن هؤلاء سيفقدون مصدراً مهماً للتوثيق، فللبادي كل الشكر على هذه الخدمة الجليلة.