لقد كان الأسبوع الماضي حزيناً بالنسبة لي، فقد نقل إليّ النعاة خبر انتقال ثلاثة من أحبابي وأصحابي إلى الرفيق الأعلى، فقد استقر في مثواه وهوى إلى أرض الخلود هرم من أهرامات ولاية الجزيرة.. شيخ العرب دفع الله أبو دليق، القائد الشعبي لأهالي قرى شمال البطانة وشرق ود راوة.. وترجل كذلك فارس الهندسة وسليل الشجاعة والمروءة صديقي المهندس النو علي جبريل.. ومضى إلى ربه كذلك أحد العلماء وكبار الدعاة الشيخ الوقور عبد الماجد عوض الجيد خطيب وإمام مسجد العباسية تقلي العتيق بجنوب كردفان. كنت قد كتبت فيما كتبت من سابق هذه الحلقات موثقاً لتجربتي السياسية بولاية الجزيرة.. ذكرت حالة السعادة والفرح الغامر الذي اعترى أهل قرى شمال الجزيرة في منتصف التسعينيات خلال الاحتفال بتدشين وتشغيل مجموعة محطات المياه بمراكز تجمعات قرى العرب الرحل بتلك المناطق.. المشروع الذي يعتبر الأول من نوعه والأكبر على الإطلاق، حيث يشتمل على عدد سبع عشرة محطة مياه في منطقة قاحلة، ظل أهلها يعانون معاناة لا توصف في الحصول على جرعة ماء من الأعماق السحيقة لآبار عتيقة تستخدم فيها الدواب لسحب الدلاء لمسافات طويلة. تقدم شيخ العرب وزعيم المنطقة دفع الله أبودليق لتحية النائب الأول لرئيس الجمهورية الزبير محمد صالح والدكتور إبراهيم عبيد الله والي الجزيرة آنذاك، بحماس دافق وصوت جهوري مملوء بالعزة والوفاء والعَبرة تكاد تخنقه: والله أكرمتونا والله عليتونا والله شرفتونا.. ثم فاجأ الجميع بعفوية عرب البادية وصدق مشاعرهم «حرّم جنة ما تدخلوها إنتو يكون فيها ملعوبية..».. فضج المكان بالضحك وفهم حديثه في باب عفو الحديث ممن غلبته المشاعر وألجمته الدهشة ولم تسعه الفرحة وجلال الموقف.. قياساً على ما ورد في الحديث النبوي رواية لحال الأعرابي الذي ضلت دابته وعليها طعامه وشرابه في أرض فلاة وخلاء، ثم عادت بعد أن يئس من عودتها وتوسد يده واستسلم للموت، فلما رآها تقف فوق رأسه قال: اللهم أنت عبدي، وأنا ربك!!.. أخطأ من شدة الفرح. رحم الله شيخ العرب دفع الله أبودليق وأبدل سيئاته حسنات.. وجعل كل جهده وحماسه لخدمة أهله في ميزان حسناته، وقد سبقه إلى رضوان الله الزبير وعبيد الله شهداء في سوح الدين والوطن ..وبقيت أنا لأثبت الشهادة وأدون الرواية. أما المهندس النو علي جبريل الذي تولى مؤخراً منصب وزير التخطيط العمراني بولاية شمال كردفان، فقد انزوى عنا في عجالة فائقة وهو في كامل عافيته وقوة أدائه، تاركاً بصماته الهندسية الرائعة ولمساته الفنية في كثير من المنارات والمنشآت في العاصمة والولايات، فقد كان متفرغاً لأعمال الهندسة والمقاولات قبل أن يبتليه الله بالتكليف الوزاري.. فقد كان رحمه الله رائداً في مشروع الإسكان الشعبي بالعاصمة، وكان منفذاً أساسياً للمؤسسات الضخمة التي شادتها هيئة تنمية غرب كردفان. عرفته أول ما عرفته في عام 1993م وهو يتصدى بشجاعة وثقة لتشييد «ساحة النصر» بمدينة الأبيض في زمن قياسي وبصورة رائعة وبتكليف وإشراف مباشر من والي كردفان وقتها اللواء بحري سيد الحسيني عبد الكريم، وما أداراك ما الحسيني عبد الكريم. نعم تصدى للمهمة بشجاعة رضع لبانها من أهله الأشاوس أولاد غبوش فرع قبيلة الحوازمة الشهيرة التي قدمه مثقفوها رئيساً لمجلس شوراهم بالتزكية، وشجاعة تشربها من أبيه علي جبريل أحد أبكار قوات الهجانة في السودان وتدرج فيها حتى بلغ رتبة الرائد وحصد كل الأوسمة والنياشين خاصة كأس الرماية الذي ظل تحت أحضانه حصرياً يناله كل موسم حتى ترجل، وتميز كذلك في الجندية عمه «إسماعيل» وابن عمه «إسماعيل» فأكرم بهم من سلالة يفخر من ينتسب إليهم.. أما الثقة فقد كانت في تمكن المهندس النو من إنجاز ساحة النصر في مدة «45» يوماً كما طلب اللواء الحسيني، باعتبارها مسرحاً أساسياً لمهرجان احتفالات كردفان وقتها، بأعياد الاستقلال والدورة المدرسية، ومن غير المهندس النو يتصدى لساحة وضع فكرتها وخطتها وحدد معالمها على الأرض اللواء الحسيني صاحب الفطرة العوافة للتأخر أو التردد ولا يرضى دوماً بغير المرتبة الأولى، مرتبة الإحسان في كل شيء.. لقد اقتربت أكثر من الأخ النو خلال تكليفي معتمداً للدلنج من خلال إسهاماته ومبادراته في حل المشكلات الأهلية وتطوير المنطقة، وكذلك من خلال المشروعات العمرانية الضخمة التي نفذها لهيئة تنمية غرب كردفان، رحمه الله وبارك في أهله وذريته من بعده. أما الشيخ عبد الماجد عوض الجيد، فقد قضينا بصحبته خمس سنوات من سني الشباب الغض الطرير عندما دفعت بنا مؤسسات الدعوة ثلة من الشباب حديثي التخرج في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي لتأسيس المعهد الديني بالعباسية تقلي، فضمنا مسجده العتيق واتسعت لنا حلقة القرآن اليومية بعد صلاة الفجر، حيث كان الشيخ عبد الماجد ماهراً يصدح بالقرآن فيتمايل ويهتز به طرباً وحباً، يملأ القرآن جوانحه وتستغرقه الآيات، فكأنما يقرأ بقلبه لا بلسانه.. تحس بدفء القرآن ومعانية ومقاصده وأنت تستمع إليه أو تصلي خلفه. كان للشيخ عبد الماجد طريقته الخاصة في النصح والموعظة يبذلها إن حزبته قبل الصلاة أو بعدها من على المنبر أو جالساً في المحراب لا يهم، فالمهم عنده أن تصل الرسالة وتبلغ الدعوة.. كانت له رحمه الله، عبارة عظيمة الإيحاء تلازمه بعد كل مقال: «نسأل الله التوفيق»، حتى عرف بها وعرفت به وظلت هتافه حتى لقيّ ربه راضياً مرضياً. العزاء لعلماء السودان، فقد فقدوا عالماً.. والعزاء لأهل جنوب كردفان، فقد غاب داعية.. والعزاء لأهل تقلي العزيزة، فقد مضى شيخهم.. والعزاء لأخواني رواد حلقة القرآن تلك في ذلك الركن القصي بمسجد تقلي العتيق في ذلك الزمان الوضيء.. الشيخ الشاذلي والعمدة إدريس الزيبق والمرحوم الصول إدريس الفاضل والأستاذ عبد الحي محمد عبد الحي والشيخ أحمد حسن رحمة والمرحوم الأستاذ علي جمعة وسيد آدم نور الدين والبقية الذين لم تسعفني الذاكرة بذكرهم ونسأل الله التوفيق.