تألمتُ كثيراً وأصبت بالحيرة والدهشة، بل وضعت يدي على قلبي وأنا استمع لتفاصيل «الأزمة المفتعلة» بين الأطباء السودانيين وإدارة «مركز السلام لجراحة القلب» بسوبا «الحِلَّة»، فقد تعرفت على هذا المركز باكراً بعد افتتاحه في يوليو من العام 2007م. وسبب انفعالي وخوفي الذي جعلني أضع يدي على قلبي، هو أن هذا المستشفى هو المركز الإقليمي الوحيد في أفريقيا والشرق الأوسط المتخصص في جراحة القلب في مناطق النزاعات، واختارت المنظمة الإنسانية الإيطالية- الدولية المشرفة عليه منظمة «إميرجنسي» -EMERGENCY- السودان بين جميع دول المنطقة مقراً له، هذا أولاً، وثانياً لكون الأزمة الناشبة والتي شارفت على نهايتها، هي مع شباب الأطباء السودانيين الذين تابعنا قضيتهم وقضية زملائهم مع وزارة الصحة مراراً، ودافعنا عن حقوقهم المشروعة في العيش الكريم وفي التعبير الحر عن معاناتهم التي استطالت، وهي معاناة شملت تدني دخولهم وانسداد آفاق التطور المهني أمامهم وسوء بيئة العمل التي تحول دون أداء واجبهم بالشكل اللائق والمطلوب، وثالثاً لأني وبحكم معرفتي بمركز السلام والدور المهم الذي يطلع به في حياة السودانيين وعددٍ من دول الجوار الأفريقي والعربي، وبيئه العمل المتوفرة فيه من حيث الأجهزة الطبيبة المتوفرة فيه والنظافة والترتيب والدقة في التعامل دخولاً وخروجاً للمرضى والزوّار، والرعاية التي يوفرها لمرافقي المرضى- وليس المرضى فقط - خصوصاً لأولئك القادمين من مناحٍ بعيدة داخل البلاد أو من الخارج- كنت أظن واتعشم أن الأطباء السودانيين العاملين بالمركز سيكونون شديدي الحرص على هذا المركز بدوافع وطنية، لأنه يقدم خدمة علاج مجانية، في تخصص دقيق، وحتى لداوفع ذاتية لأن المركز يمثِّل أفضل حقل تدريب لهم، ربما لا يجدون مثيلاً له حتى لو تم ابتعاثهم للتخصص في الخارج. كل هذا يجعلني أتوجه بهذه «الإضاءة» لمناشدتهم للابتعاد عن كل ما يثير الأزمات، حتى يستمر هذا المركز المهتم بالإنسان من حيث هو إنسان ويقدم له علاجاً بالمجان، وبأفضل عناية ورعاية ممكنة بلا مقابل سوى «الواجب الإنساني»، خصوصاً عندما تكون المشكلة في حجم تلك المشكلة التي نشأت في المركز والمتصلة بتأمينه من الداخل، بعد أن بدأ المركز يفقد بعض أجهزته الصغيرة المهمة والحساسة وبعض الممتلكات الشخصية لبعض أطبائه، فرأت الإدارة أن تفرض التفتيش على كل الداخلين والخارجين من المركز «بشكل روتيني» حتى يتم التيقن من الطمأنينة على محتويات المركز وموجوداته من جهة، وعلى تأمين المركز ضد أي عمل تخريبي قد يستهدفه ويلحق الضرر بالوطن وبالإقليم من حوله، أو يضطر المنظمة الراعية له- لا قدر الله- أن تنقله إلى أي بلد آخر غير السودان. علمت أن الأطباء السودانيين قد رفضوا في البداية أن يشملهم التفتيش، برغم أن التفتيش سيشمل الجميع بما فيهم الأطباء الأجانب، بحجة أن التفتيش يعتبر مساساً بكرامتهم، ودخلوا في إضراب ماسبب حرجاً بالغاً لإدارة المستشفى، ثم وافقوا أخيراً على الفحص الإليكتروني الذي سيتم تركيب أجهزته ابتداءً من يوم السبت، وان تأبي القلة منهم حتى التفتيش بواسطة الأجهزة. وفي هذا أقول للإخوة الأطباء المحترمين، إن الفحص والتفتيش لا يعنيهم هم بالدرجة الأولى، ولكن المركز يستقبل الآلاف من المرضى المرافقين الذين يتوقع المرء أن يكون بينهم بعض ضعاف النفوس، كما أنه يستقبل مرضى ومرافقين من مناطق النزاع وقد يندس بينهم من يقوم على عمل تخريبي بدافع أو آخر يلحق أذى بالمركز وبالمرضى، ما يجعل خطوة التأمين هذه تأتي متأخرة على ضرورتها، ثم إن الفحص والتفتيش يجب أن لا يستثنى أحداً، سواء كان لموقعه الوظيفي في المركز أو مهنته، طبيباً أو ممرضاً أو عامل نظافة أو زائراً أو مرافقاً، لأن الاستثناء هنا يعني من الناحية الإنسانية التفريق بين الناس بسبب أوضاعهم الوظيفية أو الطبقية، بحيث تصبح «الكرامة الإنسانية» حق للبعض وليس للجميع، وهو تمييز ترفضه الأعراف والتقاليد المرعية في مثل هذه الحالة. صحيح أن منطق الأطباء يبدو مقبولاً من حيث الشكل، فالطبيب مؤتمن على حياة الناس وبالتالي لا يمكن أن تتوقع منه أن لا يكون مؤتمناً على محتويات المركز والعاملين فيه، لكن المشكلة الحقيقية هي في هذا «التمييز»، فإذا ما استثنيت الطبيب وفتشت الآخرين من ممرضين وعمال فإنك تكون قد ألحقت من حيث لا تدري أو تريد إهانة لكرامة هؤلاء الآخرين لأنهم يشغلون وظائف أو درجات أقل، وهذا ما يجب أن يتنبه له الأطباء قبل غيرهم بحكم «مهنتهم الإنسانية» ورسالتهم السامية، وكنت أتوقع من الإخوة الأطباء أن يكونوا أكثر حرصاً على تطبيق تلك «المساواة» حتى لو رأت إدارة المركز غير ذلك وقررت استثناءهم. وقد تصاعدت الأزمة حتى وصلت إلى وزارة الصحة وإلى مفوضية العون الإنساني وممثل وزارة الصحة فيها، حيث خاطبني الدكتور محمد حسين دفع الله عبر الهاتف وبعث لي بتوضيح على بريدي الاليكتروني يشرح أبعاد المشكلة- ستجدونه منشوراً في مكان آخر بآخر لحظة- وكنت قررت مسبقاً وبعد سماعي بالأزمة أن أخصص «إضاءة» اليوم لهذا الغرض، وأرجو أن يجد الإخوة الأطباء السودانيون في بعض ما سقته ما يرضيهم ويقنعهم بأن كرامتهم محفوظة في كل الأحوال، وأن يواصلوا عملهم وجهودهم الخيرة في المركز بهمة و حماس زائدين، مستعينين بحكمة أهلهم السودانيين القائلة بإن «البكاء بحرِّرو أهله».