وأروع ما كتب ذاك المُنافق.. الراكع أبداً تحت أحذية السلاطين.. الساجد أبداً على بلاط الأمراء والحكّام.. المتنبيء.. لعل أروع ما كتب وهو ينشد أمام سيف الدولة وصفاً.. دقيقاً وفريداً عن الحب ذاك الذي يبري الجسد ويفني الأعضاء و «يحش» الحشا ويفرم الأكباد.. كتب في روعة رغم النّفاق.. مالي أكتم حبّاً قد برى جسدي وتدعي حب سيف الدولة الأمم.. وأنا أقسم بالله غير حانث.. بأني أحب الشعب السوداني في جنون أشد ضراوة من حب المتنبيء لسيف الدولة.. فقط لأنّه شعب غير أنه باسل نبيل ووسيم.. وفوق كل ذلك.. يتدثّر ويتلفّح ويتسربل بشاهق الأخلاق ويرفل في ثياب بهيجة وبهي الخصال والشمائل. وأيضاً دعوني أُقسم بالشعب والأيام الصعبة.. إنّي لا أخشى على هذا الشعب من ذُل القيد ولا ظلامات الريب.. لا أخاف عليه من قهر الحكّام وبطش السادة لا أخاف عليه من شظف العيش وقسوة الحياة وتجهم الأيام.. لا أخاف عليه من بشاعة العطالة ولا التشريد والتمييز وظيفة وتعليماً وصحة.. ولكني أخاف عليه من مجرد بقعة داكنة تلصق بثوبه الأبيض النظيف الوسيم.. أخاف على أخلاقه من أقل هزة.. من أبسط «رجفة» من أصغر رشقة تُصيب أخلاقه الشاهقة الشاسعة الباهرة.. صحيح إنّه شعب من بني البشر.. وليس مجموعة من الملائكة يمشون على الأرض هبطوا من السماء.. صحيح إنه يصيبه ما يُصيب الناس من الضعف الإنساني.. ليتنكب أحياناً الطريق.. وليجافي أحياناً الدرب المستقيم.. ولكن وفي مجمله هو شعب.. بل أمّة أجزم أنها خير أمة أُخرجت للنّاس.. هذا عن الشعب بكل مكوناته.. وهذه شهادتي التي استوصي فيها فقط رقابة ضميري والخالق.. وإذا كان من تمييز.. واحتفاء.. وحب خاص واحترام دائم.. فهو لفئات أربع مع تأكيد حبي وتقديري لكل فئات الشعب أنا أضع على رأس الذين يتمتعون بشاهق وسامق الأخلاق.. أولاً المعلمين.. وبعدهم مباشرة رجال ونساء القضاء.. ثُمّ الأطباء وبعدهم الصيادلة.. إن هذه الفئات الأربع.. لا احتمل منهم تقصيراً ولو طفيفاً.. لا أرضى لهم غير التمتع على الدوام بشاهق الأخلاق.. فأنا على استعداد تام.. للصفح والغفران لو سقط بعض التجار وأصحاب العمل والأموال مرة في اختبار الأخلاق أصفح وأغفر سقطات بعض العمال.. أصفح وأغفر لو جانبت الأخلاق أو بارحت الأخلاق بعض الموظفين.. ولكني لا أصفح ولا أغفر لطبيب أو قاضي أو مُعلّم.. أو صيدلي.. أي من هؤلاء لو سقط في امتحان الأخلاق.. لرددت حالاً وفوراً مع سيف الدسوقي رائعته التي تقول «بتنهي جيل ينظر إلينا» لذلك كله ومن أجل ذلك كله كتبت مرة عن عتاب لبعض كبار الأطباء.. كتبته- والغصة تطعن في الحلق- بأعواد مشاعل.. بل بأطراف أسنة وخناجر.. كتبته للأطباء.. لأن اللهاث والسباق المادي الأرعن المحموم والذي بدأ ينتظم الوطن.. لا يليق بهم وكنت وما زلت أعلن أنّهم يجب أن يكونوا بمنجاة من ذاك الطوفان الهائل المخيف.. واليوم أكتب للأحبة الصيادلة.. وأيضاً أنا كنت وما زلت وسأظل أعتقد جازماً بأنهم آخر الفئات المحترمة في هذا الوطن.. ولكن.. ها هي رياح التدافع لاكتناز المال.. تهب بقوة وقسوة على خيمة الصيادلة.. وها هي جرثومة الثراء تداعب بعض الأحبة من الصيادلة وأصحاب الصيدليات.. وها هي عدوى «البوتيكات» تنتقل في سرعة الضوء إلى الصيدليات وها هي أخطر وأجل وأفدح خطيئة ترتكب جهاراً نهاراً.. صبحاً ومساءً من بعض الصيادلة.. وهو البيع حالاً وفوراً لأي طالب دواء من غير «روشتة» مهما كانت خطورة الدواء.. ودلوني على صيدلية واحدة في عموم العالم المُتمدن والمُتحضر يحصل فيها المواطن على دواء بدون روشتة طبيب.. إن الصيادلة.. رجالاً ونساء يعلمون علم اليقين أنه يستحيل على أي مواطن أن يحصل حتى على كبسولات المضادات الحيوية من غير روشتة.. أحبائي الصيادلة.. رجالاً ونساءً.. كفوا عن بيع الدواء.. بدون روشتة مثله مثل البرتقال أو الليمون.. وأنا رغم أني لا أفهم حرفاً في الطب ولا الصيدلة.. إلا أني على استعداد وحتى أريكم البيان بالعمل.. على استعداد لشراء كمية من «الكورتزون» وكمية من «فاليم تن».. وأي دواء.. من غير روشتة.