جرح آخر غرزته الأيام في أكبادنا المقروحة بالفواجع والآلام والأحزان، والأمين الصادق يتخطفه الموت في غربة طالت وتطاولت- أكثر من ثلاثين عاماً- والإقتصادي السياسي والمثقف بعيد عن وطن ضاق بأبنائه بعسر اليدين وضعف الاقتصاد، وسوء ومردود الوظيفة العامة، فاختارت الكفاءات النادرة الهجرة لأرض الله الواسعة، حينما أضحى العسر في الوطن أقسى من اليسر في الغربة. حينما بدأ نظام مايو تشييد المشروعات الاقتصادية، وما عرف حينذاك بثورة الصناعة كان للأمين الصادق عبد المنان، والظاهر خليل حموده، وسيف الدين داؤود سهم وجهد، رغم إن ثلاثتهم من أبناء الأنصار المخلصين أو هكذا ينظر اليهم نظام الرئيس الأسبق جعفر نميري الذي من حسنات نظامه البحث عن الكفاءة أينما كان موقعها، وكيفما اعتنقت من مذاهب السياسة، والأمين الصادق ثمرة ناضجة لتجربة المدارس الحكومية التي تنمي المواهب وترعى النوابغ. تخطفته المملكة العربية السعودية في النصف الأول من ثمانينات القرن الماضي فتى غريراً .. طموحه بناء أسرة صغيرة تتسلح بالعلم والمعرفة، وأسرة كبيرة تبحث لنفسها عن موطء قدم في عالم، القوي فيه آكل والضعيف مأكول، تنامى التزام الراحل الأمين الصادق نحو حزب الأمة في سنوات ما بعد سقوط حكومة حزب الأمة في يونيو 1989م.. فأصبحت داره العامرة بالناس والضيوف من المقيمين في المدينةالمنورة والعابرين لأداء مناسك الحج والعمرة، متكأً وظلاً لمن لا ظل له، وهو قادم من قرية يظلها النيم والهجليج والعُشر، أصبح منزل الأمين الصادق داراً يقصدها رجالات حزب الأمة في المهجر وملاذاً لقيادات التجمع الوطني الديمقراطي في سنوات المواجهة مع النظام. ولأن الرجل يقرأ ويكتب في صحيفة الخرطوم لسان حال المعارضة حيئذاك لوعيه بالأشياء وما تحت الطاولات أخذ يتململ من السلوك الطائفي لحزب الأمة، جهر بصوته فوق صوت مبارك الفاضل فتى الأنصار المدلل، وزعيم المعارضة المبجل، فأخذ الأمين الصادق على عاتقه فكرة (الإصلاح والتجديد) من داخل حزب الأمة، وقف لجواره د. سليمان الدبيلو وآخرون قبل أن يسرق مبارك الفاضل الفكرة (أي الإصلاح) ويجعلها درباً يؤدي للسلطة.. خسر حزب الأمة الصادق ولم يكسب عافية وسط المغتربين حتى اليوم. عاجله المرض ونفسه تتوق للسودان الذي يدندن في خلواته مع الصحاب والأصدقاء رائعة عباس تلودي (سوداني الجوه وجداني)، حملته الأشواق قبل عامين لأرض الوطن كأنه محمول لوداع الأحبة والأصدقاء والأمل.. طاف منطقة القوز قرية قرية وعانق الناس شيوخاً وشباباً، وقرأ في الوجوه الشوق القديم والحب الصادق أحتفت به عشيرته في قرى خزام كطائر الشفق القادم من البعيد البعيد. فاجعة الأمين الصادق في رحيله المفاجئ الذي أدمى المقل، وانحل الدمع المعقود في العيون، وبكى الجميع رحيل الأمين الصادق بدمع نازل كالمطر في الهملان!!.