فى يوم الإثنين السابع عشر من يناير 1983م إحتشدت فلول الحركة الشعبية قريباً من منطقة - أريات - بشمال بحر الغزال التى تخلو من أى وجود للقوات المسلحة والشرطة .. خمسة عشر تاجراً من منطقة شبشة إختلطوا بأهل المنطقة وهم يباشرون تجارتهم فى سلام وحب كما يقول الشيخ - ريج - شيخ منطقة - أريات - ... الحركة يومها تلملم أطرافها لبداية فصل جديد من التمرد .. تنقضُ على هؤلاء البسطاء وتقتادهم الى ساحة خارج القرية .. الشيخ - ريج- ليس فى مقدوره أن يفعل شئ ولكن رجاءاته أفلحت فى قبول المتمردين باخلاء سبيل كبار السن .. الطيب ود المادح - عم كاتب العمود - وميرغنى ود أبوالقاسم ، و لكن الرجلين رفضا ذلك ، وأطلق عمنا ميرغنى كلمته التى سكنت وجدان أهلنا الى اليوم والى الأبد - أنا أبوك آ فاطمة أرجع أقول لأهلهم شنو ..؟ أقول ليهم كتلوهم وفكونى أنا .. لا .. لا .. آ ناس إما تفكونا كلنا وإلا سوقونا كلنا - .. بعد هذه العبارة الحاسمة لفارس مغوار وعظيم ورائع كصحابة رسول الله صلى عليه وسلم فى إستشهادهم وحرصهم على الشهادة أمام حياة ذليلة لم يكن يحب عمنا ميرغنى أن يحياها .. خطا الرجلان خطواتهم الأخيرة فى إتجاه إخوتهم الذين أوثقت فلول الحركة الشعبية وثاقهم فى دائرة واحدة .. داخل الدائرة طفل لم يتجاوز الخامسة عشرة من العمر أنذاك يدعى - وسيلة - وبجواره أربعة أشقاء أصطف عمنا الطيب وعمنا ميرغنى وسط الشهداء ، و ماهى إلا لحظات وتنهال عليهم رشاشات المتمردين ، فسقط الشهداء داخل دائرتهم وأجسامهم الطاهرة تراصت وهى تنزف دماً من كل مساماتها .. وسط أشلاء الشهداء حبس الطفل - وسيلة - أنفاسه و قد غمرته دماء أبائه فسترت سلامته ، فلم تنل منه رشاشات الحاقدين رغم كثافتها ، و كأن الشهداء إفتدوه بأجسامهم و هو أصغرهم ، ليحكى حكايتهم . إستشهد فى هذه الواقعة ثلاثة عشر رجلاً من مدينة شبشة و قد نجا وسيلة وأخر إصابته لم تكن مؤثرة و قد نهب المتمردون بضاعتهم وأملاكهم ، وأذكر فى ذلك التاريخ كيف تلقى أهلنا الخبر ، كنت طفلاً فى المرحلة الإبتدائية وقد جاء الخبر والشمس تأذن بالرحيل .. الناس أصابها دوار وذهول حتى البكاء فى تلك اللحظات الأولى كان عصياً والدموع تتساقط وكأنها أحجار و الناس يتوافدون الى الجامع العتيق بالمدينة .. لا صوت تسمعه غير حراك الأرجل ونحيب الصدور ... يحتشدون الى الجامع .. يتصاعد الحشد دون أن يتصاعد صوت البكاء وكأنهم سينفجرون فى لحظة واحدة .. لا أحد يعزى أحد ، النظرات المذهولة هى وحدها التى تبكى و تعزى وتعانق .. الحشد داخل الجامع يتسع و يتسع .. لم يقرر أحد أن يكون العزاء بالجامع و لكن خطواتهم وحزنهم الكبير كان يقودهم الى الجامع .. بعد عشرة أيام عاد الى شبشة الطفل - وسيلة - فاستقبله أهله داخل الجامع بالدموع والأحضان والقبلات والنحيب الذى ما أنقطع للحظة .. كانوا يحيطون بوسيلة وكأنه كتاب بعثه الشهداء إليهم .. فيه رائحتهم وكلماتهم وصورهم الوضيئة وكأنها قرص الشمس .. تقبل الله شهادتهم وهم ثلة من الأولين والأخرين بأذن الله تعالى .. هم ميرغنى أبوالقاسم ، الطيب المادح ، الطيب الكباشى ، الأمين الطيب عبدالرحيم ، أبوالقاسم كشاح ، ابراهيم مختار ، محى الدين عوض الكريم ، الشاذلى عوض الكريم ، عوض الله عوض الكريم ، ياسر عوض الكريم ، دفع الله حسن الفضل ، ابراهيم عثمان - أم درمان - محمد أحمد عبدون - كوستى- وقد نجا بجانب الطفل وسيلة الأخ العزيز النور حسن وداعة من الدويم . أخى وسيلة فضل الله ها وقد مرت ست وعشرون عاماً على الحادثة وأنت الأن رجل تحمل حزناً دفيناً وذكرى أليمة ، سمعت أن باقان وعرمان أخوة القتلة يرتبون لزيارة شبشة خلال الزيارة السنوية للبرعى الإثنين القادم ..كيف ستستقبلهم شبشة ..!!؟؟