{ رجل من مدينتنا (شبشة) مات أمس الأول عقب صلاة المغرب مباشرة فى مستشفى الحوادث بأم درمان ولم يمكث أكثر من ساعة ما بين بيته والمستشفى، وبدأت هواتف الحزن والدمع ترن و(تصقع) وتدمي القلوب وتلتقط بكاءً حاراً يتدفق من داخل صدور الرجال.. الأنفاس تسابق بالخبر قبل أن ينطق اللسان، وكم من طارق ينفجر باكياً وهو أعجز من أن يتفوه بعبارة (محمد الكباشى مات). { مات رجل استجمعت حياته القصيرة خصالاً كريمة منحتها قلباً كبيراً لا يعرف البغض أو الحسد، يرسل دوماً ابتسامته وضحكته الذكية وروحه المتسامية عن الصغائر في كل جلسة تجمعه بأهله ومعارفه، فكان تفاحة مجالسهم ونسمتهم الباردة وهو يبعث حديثه بهدوء وسلاسة وانتظار، قبل ذلك يلفه صمت جميل وهو يستمع لهم بفرح خرافي تكشف عنه هزات رأسه المتتابعة وهو يؤمّن على ما يقولونه له من حديث. { في سبتمبر من العام 1983م استشهد والد المرحوم الدكتور محمد الطيب الكباشي بمنطقة (أريات) بجنوب السودان، ضمن أربعة عشر شهيداً من رجال شبشة اغتالتهم الحركة الشعبية داخل متاجرهم ونهبت أموالهم وبضائعهم، وفي العام 1988م استشهد شقيقه الملازم (أحمد الكباشي) شمال الرنك وهو يحارب بالسونكي بعد أن نفدت ذخيرته، وهذه الحادثة تحديداً يذكرها السيد الرئيس البشير كثيراً حين يستشهد بإهمال الحكومة الحزبية للقوات المسلحة، وكان يذكره بالاسم وتتابعت جولات الابتلاء لكباشي فترحل والدته فيتسع عليه الرتق ليستعوض حنانها لهم وعظيم دورها تجاههم. { المرحوم محمد كباشي كابد الحياة وأرهق روحه وجسده الطاهر وعزيمته الكبيرة بتحديات أعظم وهو في بداية حياته يجد نفسه محاطاً بتربية إخوته وهم أيتام، أكبرهم يطرق أبواب الجامعة، وبقيتهم ينهضون إلى مراحل التعليم الأولي، مستعصماً بمهنة التدريس التي منحها إخلاصه وتفانيه وطوّر قدراته حتى بلغ درجة الأستاذية في اللغة الإنجليزية وصار يجمع في صفوف علمه الزاخر تلاميذ المرحلة الثانوية وطلّاب الماجستير في الجامعات السودانية، دون أن يخلط في طرائق هؤلاء وأولئك ومقاصدهم العلمية، وتجده يزرع الأرض في حركة دؤوبة حتى بعد ساعات الدرس الرسمية يوزع جهده وعلمه على كم هائل من التلاميذ، يقوي من قدراتهم ويحصد من المال ما يجابه به مسؤولياته، وتسعفه في هذه المكابدة بركة من الله وتوفيق فيرفد الوطن بمهندس وضابط وطبيب، لهم في سوحهم جدارة وتفوق وتقدير.. فهم دوماً هكذا أبناء الشهيد الكباشي. { كان الحشد كبيراً لحظة التشييع مثل حزننا فيه والنظرات تطرق لتنزف دمعاً ودماً يهبط حجراً تحت أقدامهم، وهناك يتصاعد الحزن حين تطبق النظرات وتحيط فجأة بشقيقه المهندس عوض الله وإلى جواره ابن كباشي صاحب الثلاثة عشر ربيعاً فتندفع مشاعر أهلنا (الشباشة) تجاه هذا الرهط النبيل من الناس وسط حالة من البكاء تغمر المكان من كافة جنباته.. بكى أهلنا كما لم يبكوا من قبل، دون أن يغادرهم التسليم الكامل بأقدار الله وتصريفه.. بكوا والبكاء الذي لحظته في وداع كباشي رأيته يجمع بين المتخاصمين في عناق ونحيب ودموع حرّى تأبى أن تنقطع قبل أن يستقر صاحب المقام في مثواه الأخير والقلوب تبكي وتدعو، والأجساد ترتجف وهي مثقلة بحزن كبير تتطلع إلى رحمة واسعة تحيط بالمرحوم كباشي وحسن ختام ومغفرة وقبول لرجل يحسبه أهله ومعارفه أنه رجل من أهل الجنة. { اللهم ارحم محمد كباشي رحمة واسعة وألحقه بوالده الشهيد وشقيقه الشهيد مشفعاً فيهم ومقبولاً عندك ونشهدك ربنا أننا لم نر منه إلا خيراً، والحمد لله رب العالمين.