شيء ما يجعلنا نبالغ بلا أي مبرر، ربما هو رد فعل (لشيء ما آخر)، يختمر في العقل الباطن لهذا أو ذاك من الناس ولأسباب تخصه وحده فيتطوع ويوزع الإحباط على الناس يميناً وشمالاً من حيث قصد أن يتفضل عليهم بشيء ليشكروه، هذا يحدث في معاملاتنا اليومية وبالإمكان تجاوزه من جانب العقلاء والمتريسين وبمعالجات ميسورة ولا حرج، الحرج كل الحرج أن تمس هذه المبالغات مسائل مصيرية تتعلق بالبلاد كلها وبمسلماتها. يحضرني في هذا المقام موقف مشهود للإمام الصادق المهدي في مستهل إحدى فرص ازدهار التعددية التى مرت على البلاد وجاءت به الى دست الحكم، لقد بالغ البعض في المطالبة بالحقوق العامة كرد فعل لأيام الحرمان، فقال لهم قولته الجهيرة (يا إخواني نحن نريدها ديمقراطية فقط، لا ديمقراطية ونص). ماذا يمكن أن يقال اليوم في وجه بعض المزايدين في أمر الوحدة سوى (يا إخوان نحن نريدها وحدة فقط، لا وحدة ونصف ولا حتى جاذبة)، وبالإمكان أن نضيف لذلك من مطايب القول: (أليس منكم رجل رشيد؟). هذه المبالغة في المطالب والوعود وحتى الأشواق المشروعة، أفضت الى ما أفضت اليه التجربة السياسية وبحكومة السيد الصادق تلك، ولعله كان يراهن على نتائج العجلة مما رأته العين فيما بعد. إن المفارقات فى شأن التسرع والمتسرعين كثيرة، وشبيه لهذا ما قيل عن ذاك الذي (يعلف ويجس الذيل). المبالغة من قبيل المزايدة، ولا يطمئن لعواقبها الموضوعيون وأنصار (أعقلها وتوكل على الله)، فلا داعي مثلاً للتسرع الذي يجعل وحدة البلاد في كف عفريت نيفاشا المعلوم ولا في تصريحات رائجة لنفر قليل أقوالهم وتصويباتهم تتصدر الصفحات ووسائط الإعلام وليتها استعصمت ببعض حكمة أهل السودان. وكنتيجة فالخطاب العام اليوم طابعه الغالب إما متسرع وإما متشائم، وغالباً متشابه من حيث المنطلقات، فهي إما متناقضة أو حادة أو تستوجب التصحيح أو الاعتذار، وكمثال لذلك قول من قال (انفصال الجنوب أصبح واقعاً) أو (خيار انفصال الجنوب أقرب من الوحدة)، ومن يقرر ببساطة (الفترة المتبقية لا تسمح بوحدة السودان)، الى غير ذلك من تصريحات صادفت ذكرى توقيع اتفاقية السلام التى رأت أن يعمل الشريكان للوحدة ليأتي الاستفتاء مشجعاً لأخذ قرار الوحدة على بينة، أو هذا ما يبدو وكأنه (نية المشرع) للاتفاقية. هكذا ولأول مرة ترى مناسبة (وطنية) تواجه بخطاب متشائم ولهذه الدرجة، ومن أصحاب المناسبة ذاتها، فما جدوى الذكرى لتعاد للأذهان؟ يفترض أن تكون هناك دراسات أو استطلاعات رأي تسبق مثل هذه التصريحات القاطعة في شأن مصيري ترك حسمه حصرياً للشعب السوداني، وإرث السلطات كما تقول الدساتير المتعاقبة منذ الاستقلال. هل الوحدة (الجاذبة) تحقيقها مرهون بخمسة أعوام لا غير؟.. وهل هي شيء آخر غير الوحدة المجردة التي يعرفها أهل السودان منذ الأزل وضحوا من أجلها بما ضحوا؟.. وماذا لو تركت الوحدة تمضي بين أبناء الوطن الواحد بلا (جاذبية) سياسية مشروطة بزمن محدد؟.. ولماذا لا تكون وحدة (عادية) ببرنامج عمل دؤوب وذكي ومتجرد، غير متسرع؟ يبدو أن الوحدة لأغراض إدراك موعد الاقتراع تستعصي الآن، ربما تتحقق على مهل، ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً وتكريساً (للمعايشة) الجارية عملياً بين أبناء وطن وحده الاستقلال. فلنتجنب استهلاك هذه المفردة الجميلة (الجاذبة) وأمثالها مما يذكر الناس بالشعارات البراقة التي أبت إلا أن تجافي الواقع.. إن كلمة (جاذبة) جميلة على الألسن وستكون أجمل لو حالفت الواقع وأثمرت ما يسعد أهل السودان بعد طول شقاق.. والمنتظر على كل حال أن لا تعيد للأذهان حكاية (كلمة حق أريد بها باطل)، تلك التي عانت منها السياسة السودانية كثيراً. (الحديث) المتكرر عن شيء جاذب مع (العمل) لشيء آخر سيبلغ بالبلاد ما كرهت تاريخياً ومن واقع تجاربها. وهذه المفردة البراقة التي يمنون بها الوحدة كمظهر لهوية أهل السودان، هي بها جديرة فعلاً، ولكن ماذا اذا بقيت مجرد شعار، ضمن المفردات المجني عليها في خطابنا العام، إن دولاً كثيرة جربت الشعارات البراقة التي لا يصاحبها عمل ملموس، وندمت. ولا نمضي بعيداً عن هذا السياق، فمن المفردات الساحرة المجني عليها أيضاً ولكن اجتماعياً، كلمة (السعادة) التي هي من خصوصيات الإنسان ويبلغها بطريقته الخاصة و(يحس بها) كما يقول أهل الجودة، ليتهم يدخلون عالم السياسة، فهم قد جعلوا حتى الأحاسيس تخضع للدراسة وتثمر، برشد وعلى بينة.. وفي ذلك أفتونا لو أننا نستجيب لما من شأنه أن يسعدنا فعلاً، إن الشيء الوحيد الذي لا يقبل فيه الإنسان نصحاً، هو موضوع السعادة، إنه سلوك شخصي يعززه الشعور بنعم الله والتماس مصادر الرضا حولنا، (الرضا جنة الدنيا). إن الدراسات والبحوث العلمية ومداخل علم النفس تعاظم شأنها في تحسين حياة البشر، فدراسات الجودة والطب والتغذية والإعلام، كلها اتجهت لجرعات علم النفس ليسهل بها الوصول للإنسان وإسعاده في هذا العالم المضطرب المتعجل، فهلا اهتدى اليها أهل السياسة أيضاً؟.. فلعل وعسى خطابهم للناس ينزع الى (التي هي أحسن) لا سيما في موضوعات مصيرية مثل الوحدة ونبذ الشتات. إننا في حاجة الى أيدلوجيا سياسية تضع المواطن في المرتبة الأولى فعلاً كما اشترطت مناهج العصر، والحد الأدنى إشراكه، بل تمكينه من حقه المشروع وإرضائه (بتحقيق ما يتوقعه)، ثم إسعاده (فوق ما كان يتوقع)، هكذا يفكر العالم اليوم، الحلول العلمية لمشاكل الناس تعتمد على مفهوم (المدخلات) و(المخرجات) وهو أقرب ما يكون لمنهج (أمسك واقطع)، فالترتيب (العملي) و(العلمي) معاً يقود للإسعاد الحقيقي. واليابانيون بعد الحرب فعلوها، أعادوا بناء بلادهم وتوحيدها وتحسين سمعتها في العالم. الإدارة اليابانية تعهدت بإسعاد شعبها وفعلت، والإعلام الذي هو من صنائعها روج لذلك دون أن يخيب الآمال بترك أحاديث السعادة حبراً على ورق. لقد رأيت كيف تخوف بعضنا من أن يظهر برنامج فى التلفزيون يعد الناس ببيوت تعرف السعادة. البرنامج سمي (البيت السعيد) وحقق نجاحاً فريداً، لكن التخوف من أن لا تقاس السعادة التي في اسمه أو أن ينكرها البعض أو القول من أين تأتي السعادة لهذا البيت أو أي بيت، جرى تغيير الاسم الى(بيتنا) فقط، ولكن حذف كلمة السعادة لم يمنع البعض من أن يعول على (النية) فنية فريق البرنامج المبدع أن يقدموا للأسرة السودانية دليلاً للحياة التي تسعدهم بأيديهم.إني قد لمست وجاهة في تقديرهم بأن بيوت أهل السودان جديرة بالسعادة بمعناها العملي البسيط، باعتبارها ليست من حقوق الإنسان وحسب، بل هي من صميم ما حثت عليه الأديان ودعا له أهل العلم، ومن أهل العلم من دلنا على بعض علامات النبوة في السعادة، (د. أحمد عيسى، اختصاصي طب نفسي، جامعة برمنجهام)، فذكرنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( أربع من السعادة: المرأة الصالحة، والمسكن الواسع، والجار الصالح، والمركب الهني).وكيف يكون البيت السعيد اذا لم يكن ببرنامج تفاعلي ومباشر هذا منهجه؟ لقد تعجلنا في الحكم على طموحات جيل إعلامي قادم من عصر الجودة ليعد أهله بالسعادة و(يتحزم) لذلك، والأمل أن نتريث مع أشياء أخرى نريدها(جاذبة) فعلاً، إن التمني مشروع، فقط علينا أن نكون (عمليين)، فبلادنا بالوحدة جديرة وأسرنا بالسعادة كذلك.