ما إن تبقى على ليلة الاستفتاء على حق تقرير المصير بين جنوب السودان وشماله نصف دستة من الشهور، حيث انقضت خمس سنوات "سمان" بالتمام والكمال إلا وطفحت للسطح كلمة "الوحدة الجاذبة" وتحولت لحديث بالقاعات المكيفة والمجالس، وعلى ألسنة المنظرين على شاشات الفضائيات تماماً كاللبانة "العلكة" الماسخة في افواه العاطلين، ومَن لا يملكون تحريك أفواههم بغير "لبانة" لا تغني ولا تشبع من جوع فما ان تحط بأنظارك وسمعك في احدى القنوات الفضائية السودانية، حتى تجد رجالا مهندمين يرفع احدهم حاجبيه ويغمض عينا ويفتح الاخرى ويمطمط الحديث تمطيطاً.. محدِّثاً المستمعين عن "الوحدة الجاذبة" وانتقلت العدوى لسفاراتنا بالخارج بين الصفوة، تقام ندوات تحادث الحاضرين "الغائبين" عن هذا الحلم الجميل.. السودان الواحد المتعايش بعضه مع بعض.. بعض المتحدثين تمتلئ "خزاينهم" الفكرية بتجارب وخبرات عن تمازج شعب السودان وأرواحه النبيلة المرتوية بحب الآخرين، فما بال أبناء جلدتهم بنات وابناء الجنوب ان السودانيين اشتهروا بدماثة الخلق ولطف المعشر والتواضع وسهولة التقارب والتعايش وتداخلت في وجدانهم المرئية والمخفية، وافردت مساحاته التي تفوق المليون ميل مربع للقبائل العربية والزنجية، تصاهرت وأنبتت وتكاثرت في شماله وشرقه وغربه وجنوبه ووسطه، وبواقع الحال هو مخزن مثالي للتصاهر العرقي الاثني الثقافي، ولكن.. جاءت اتفاقية نيفاشا بالسلام وحسمت الحرب الضروس وفي جعبتها حق تقرير المصير يحل أجله يناير القادم، وينفذ كالتزام قانوني للدولة واعطى استحقاق القول الفصل لأبناء الجنوب وحدهم ليقولوا قولهم ويدلوا بدلوهم عبر صناديق الاقتراع، التي نتمنى ان تكون محروسة بأيادٍ أمينة ونزيهة مع رقابة دولية إقليمية ومحلية متجردة ونزيهة ليظل السودان واحداً موحداً ولا ينشطر لدولتين لا قدر الله. ولتكون هذه الوحدة جاذبة ينبغي دراسة استحقاقات كثيرة وحفر عميقة لم تردم في ميزان الثقة بين طرفي الحكم وآليات ردمها لن تأتي ما بين يوم وليلة، وفيما تبقى من زمن ضيئل والمجالس ما زالت تلوك مفردة "الوحدة الجاذبة" دون ان تفتتها لعمل استراتيجي ملموس لذلك تتقافز الاسئلة للأذهان، لماذا صمتت الأفواه وتأخرت المناداة وتلكأت السلطات المسيطرة على مقاليد الامور والنافذة، في الحديث عن الوحدة ووترجمه لبرامج عمل جادة طيلة الخمس سنوات المنتهية، لترتفع الآن كلمة "الوحدة الجاذبة" لأقصى مداها لتتبخر في الهواء الطلق، مادامت ليس لديها اجنحة. * إن حديث الندوات ينحصر في خانة استدعاء التاريخ وتعسكر تفنيداته لمغبة الانفصال الكريه ولا تقدم حلولا وهي ايضا لا تخاطب المعنيين الحقيقيين الذين يحق لهم التصويت من أبناء الجنوب. * إن الحديث عن الوحدة الجاذبة وفي القاعات المغلقة بسفاراتنا كندوة ليلة الجمعة بعنوان "وحدة السودان.. الفرص والتحديات" التي اقيمت بسفارتنا بالدوحة منذ السابعة حتى التاسعة وعشر دقائق بالتمام والكمال لا ننتقص من شأنها وجهد القائمين بها والمتحدثين فيها، ولكن تظل واحدة من بقايا "علكة" تُلاك هنا وتمضغ هناك، وبيوت عزاء فتحت لبكائيات لم يحضرها غير المعزين او فلنقل اصحاب الوجعة "المسلوبين الارادة "مادامت أيديهم لن تصل لصناديق الاقتراع.. * إنها فعلا "بكائيات" مادامت لم تفكك للغة بسيطة يستوعبها المعنيون الغبش في احراش الجنوب وقراه.. الذين يحق لهم التصويت بعد أن أهدرت خمس سنوات في مماحكة ومغالطات بين طرفي الحكم المؤتمر الوطني والحركة الشعبية، وغابت او غيبت رموز لاحزاب تقليدية فارقت الهم الوطني وانكفأت على انقساماتها واوجاعها الذاتية، وقيادات لحركات دارفورية ما زالت تتعنت وترفض الجلوس لمائدة مفاوضات سلام دارفور، متجاهلة قضية انفصال الجنوب وكأن تفتيت السودان لا يعنيها بشيء.. إن ردم الهوة وتغذية الوحدة بعمل ممنهج ومدروس من المفترض ان يكون حديث عمل للجميع لأن السودان للجميع. * كان لابد ان يكون الحديث عن الوحدة "بالعمل لا بالحديث المنمق" الذي يستدعي التاريخ، ويضرب الأمثال عن تمازج الشعب السوداني وعلى ضروراته التثقيفية والتنويرية.. إن الوحدة حصانها الآن في المنعرج الخطير من السباق، وهو يحتاج لبناء المشافي والشفخانات المدارس والقطاطي الشوارع والمطارات السدود والمزارع لإنبات العشب وادرار الضرع ولتوطين كامل الصحة والتعليم. * ان جنوب السودان عانى مرارات الحرب الاهلية ولم يعرف الاستقرار إلا بعد اتفاقية نيفاشا التي هندسها شريكا الحكم، وستسجلها لهم كتب التاريخ كإنجاز "مهم ورائع" وكان يمكن ايضا ان تكون الوحدة جاذبة إن ترجمت لبرامج عمل ينقل "المدينة للريف الجنوبي" يعمره بضرورات الحياة، ويبعده عن التنافر والتشرذم ليكسب السودان رهان السباق واحدا متلاحما متلائما مع قدره ومصيره، وفي زمن القوة والبقاء فيه للتكتلات الكبيرة وما دون ذلك لا يغادر خانة "البكائيات" يقيمها ويحضر مجالسها في الغالب الاعم من لا يحق لهم التصويت، لان الاستفتاء حق خالص بحكم القانون لأبناء الجنوب "الغائبين خلف كواليس نصبت خيامها" بعيداً عنهم وسهامها متحدثون صفوة وبلغة لا تجيد "عربي جوبا ولا لغة المندكرو".. إنها تتحدث عن "وحدة السودان.. الفرص والتحديات" لسودان كان كبيراً، ومصيره الآن مجهول مادام حديث الوحدة لا يغادر بيوت عزاء في قاعات يدخلها صفوة ويغيب عنها المعزون الأساسيون: "إخوتنا من جنوب السودان". همسة: لسنا متشائمين ولكن لغة المنطق تقول ان استثمار الوقت بالعمل لا بالحديث المنمق..والله من وراء القصد المصدر: الشرق 28/6/2010