مؤامرة غربية، أو هي من صنع أيدينا أو من إفرازات الطبيعة والجفاف والتصحر، أو ضرب من أفعال السحرة وإغواء الشيطان الرجيم، فإننا نواجه اليوم وعلى مدى سنوات- أزمة في دارفور تنتظر الحل والفعل الناجز، أزمة يتفق الجميع (إلا من أبى)، إنها تشكل بعض القنابل الموقوتة المزروعة في طريق الانتخابات المنتظرة في أبريل، والتي اعتبرها الحزب الاتحادي (الأصل) في مذكرة رسمية سلمها للمفوضية القومية للانتخابات أخيراً ضمن عوامل أخرى مدعاة لتأجيل الانتخابات إلى نوفمبر المقبل؛ لأنها لا تزال تراوح مكانها، بينما تندفع الحكومة إلى مفاوضات الدوحة في موعدها المقرر من قبل الوسطاء القطريين لتنعقد (بمن حضر) دون التفات لشمولية التمثيل ووحدته المفترضة في من يجلس على الجانب الآخر من الطاولة، سواء كان (مجموعة طرابلس أو أديس أبابا أو خليل إبراهيم) بحسب المفاوض الحكومي أمين حسن عمر- ما يشيء بأن الحكومة لا يعنيها إذا تكرر سيناريو (أبوجا) مرة أخرى في (الدوحة)، ربما عملاً بالحكمة القائلة ( ما لا يدرك جلُّه لا يترك كلُّه)، فهي بمثل هذه الخطوة ستكون قد حيَّدت بعض الحركات المسلحة وأضعفت جبهة الخصوم، بخصم من يفاوضها من رصيد تلك الجبهة، ذلك النهج القديم الذي جربته (الإنقاذ) مراراً تجاه المفاوضين واستفادت منه أيما فائدة. ليلة الثلاثاء الماضي سهرت مع فيلم تسجيلي حول قضية دارفور، بثته قناة (الحرة)، ولأن (الحرة) قناة أمريكية، فقد حرصت على متابعة وملاحظة التفاصيل التي قد توحي أو تنبئ بأبعاد التآمر في هذا العمل الإعلامي المنطلق من (قناة متهمة) الفيلم كان عبارة عن تسجيل لشهادات حية من (معسكر كونونغو) للاجئين الدارفوريين على الحدود السودانية التشادية، تحدث فيه عدد من سكان المعسكر عن قصتهم ومأساتهم وحرق قراهم واضطرارهم للنزوح والهجرة غرباً على الأقدام حتى بلغوا الحدود التشادية، وعمن فقدوا من أحبائهم وذويهم أثناء الحرب، وألقوا باللائمة على القوات الحكومية المحمولة جواً وعلى (الجنجويد) المحمولين على ظهور الخيل والجمال وسيارات الدفع الرباعي، كما حكوا عن معاناتهم في المعسكرات التي استقروا فيها تحت الرعاية الدولية والغربية، التي يصفون القائمين عليها ب (النصاري)، فكل أبيض عندهم (نصراني)، لكن شكواهم الرئيسية كانت موجهة للعرب والمسلمين، حكومات ومنظمات مجتمع مدني وإعلام، فقد أكدوا جميعاً إنهم لم يتلقوا أي عون أو يصادفوا أي إهتمام من أي من الدول العربية أو منظمات الإغاثة، وإن بعثة (الحرة) والتي كانت مكونة من طاقم عربي، هي ثاني بعثة إعلامية أو صحفية عربية تزورهم منذ أن استقروا هناك قبل ست سنوات، وعندما سأل مذيع (الحرة) عما إذا كان انقطاع الإعلام العربي يعود الى أن الحكومة التشادية لا ترغب في نشاط الإعلام العربي في تلك المعسكرات، أجابت مسؤولة منظمة الهجرة الدولية التابعة للأمم المتحدة بقولها.. إن الحكومة التشادية لا تمنع الصحافة العربية من زيارة المخيمات، ولكن يبدو أن الصحافة والإعلام العربي عموماً مشغولون بقضايا أخرى يرونها أكثر أهمية. من المسائل الأخرى التي ركز الفيلم على مناقشتها مع من استنطقهم من سكان مخيم كونونغو القريب من أبشي، هي (مظاهر الاستقرار) التي لاحظها معدو الفيلم على أحوال المهاجرين، والتي تمثلت في استبدال الخيام ببناء منازل ثابتة من الطين والطوب الأخضر والقطاطي، تشبه قراهم في دارفور، وما إذا كان ذلك يمثل استسلاماً للواقع وزهداً في العودة إلى ديارهم، تفاوتت إجاباتهم فبعضهم أبدى تردداً إزاء إمكانية العودة إلى الوطن لانعدام الأمن هناك، وقالوا إننا في انتظار أن نرى ما ستنتهي إليه عملية السلام، فلو تحقق سلام حقيقي ولو كان هناك من يحميهم من تكرار المأساة التي عاشوها من قبل فعندها سيعودون، أما في ظل الوضع الراهن ( ما في نفس ترجع.. أحسن نموت غرباء) كما قال شيخ مشايخ المعسكر عيسى التجاني، وهو رجل سبيعيني تحدث بوعي لا يتوفر حتى عند أعتى المثقفين، خصوصاً في قضايا الهوية العربية والأفريقية والمفاهيم الإسلامية. لكن (القناة) كانت أكثر ذكاءً من يقتصر عملها على عرض فيلم تسجيلي مليء بالمواقف والمشاهد والشهادات السلبية، فعمدت إلى استضافة ثلاثة مراقبين جعلتهم يشاهدون الفيلم وتدير معهم حواراً حول ما رأوا، وهم: الأديب الروائي السوداني صلاح الزين وأكاديمي وناشط سياسي يدعى الدكتور حيدر، والأستاذة نعمات ناشطة دارفورية في قضايا المرأة، وتركز الحوار معهم حول قضيتين هما: الغياب العربي والإسلامي في أزمة دارفور، ودور المرأة الدارفورية في المعسكرات، تلك المرأة التي تقوم بمعظم الأعمال من البناء إلى جلب حطب الوقود والمياه وتحضير الطعام إلى رعاية الأطفال، وفي القضية الأولى أجمع المحاورون على أن غياب الدور العربي والإسلامي ناجم -كما قال حيدر- عن عدم الاهتمام العربي بالسودان في مجمله كبلد- أو كما قال صلاح الزين.. إن الخطاب العربي مصاب بصمم تاريخي، وأن الأنظمة العربية تغيب عن التضامن مع دارفور لتُغيِّب المظالم التاريخية التي تلحقها هي بشعوبها.. أما الناشطة نعمات فقد اشتطت لدرجة جعلتها تقول إن أزمة دارفور هي (مؤامرة عربية)، وأضافت إن الحكومات العربية إذا لم تقل شيئاً للنظام فعلى الأقل كان عليها أن تهتم بالحالة الإنسانية المحضة والفظيعة التي يعيشها المهاجرون والنازحون، وعن دور المرأة الرائد في المعسكرات قالت.. إن 85 في المائة من سكان هذه المعسكرات هم من الأطفال والنساء. وإن المرأة الدارفورية كانت مستهدفة في الحرب، لأنها تمثل- (تاريخياً)- طاقة العمل الرئيسية في دارفور. الذي يشاهد ذلك الفيلم التسجيلي الحي، الذي بثته قناة (الحرة)، والحوار الذي أعقبه يخلص إلى نتيجتين الأولى هي.. أن حل قضية دارفور يحتاج لوقت أطول ولجهد أكبر مما هو مبذول الآن، وأن الشهور القليلة الفاصلة بيننا وبين الانتخابات ليست كافية لانجاز هذا الحل، وأن الدول العربية التي التحقت (مؤخراً) بقطار التسوية في دارفور ليست مؤهلة لانجاز ذلك الحل في الوقت المطلوب، حتى لو حظيت برضى القوى الدولية الضالعة أو المتهمة بأزمة دارفور.. وأخيراً: سؤال موجه لمفوضية الانتخابات المحترمة، لم أجد له إجابة في ذلك الفيلم الوثائقي الحديث، هل عمدت المفوضية إلى تسجيل المهاجرين المقيمين في معسكرات اللجوء في شرق تشاد، والذين يتراوح عددهم بين 250 و 300 ألف نسمة، والذين ربما كان نصفهم أو ثلثهم على الأقل مستحقين للمشاركة في الإنتخابات مثلهم مثل غيرهم في السعودية أو أمريكا أو المملكة المتحدة.