في اتصال هاتفي مع قطب اتحادي صديق.. سألني الرجل عما دعا مولانا محمد عثمان الميرغني لأن يقول ما قال حول مؤتمر جوبا، بعد أن شارك حزبه في آخر أعمال ذلك المؤتمر عبر نائبه الأستاذ علي محمود حسنين، وبعد أن عبر عن رضائه عن نتائج ذلك المؤتمر في اجتماع المكتب السياسي الذي أعقب المؤتمر، ورفض اقتراح بعض أعضاء المكتب بمحاسبة حسنين على تلك المشاركة.. ولماذا عاد ليقول إن المؤتمر «مؤامرة» أو «مكايدة» تستهدف حزب المؤتمر الوطني الحاكم لذلك لم يشارك فيه.. سألني القطب الاتحادي وكان يترجى أن يجد لدي «تحليلاً» لما ذهب إليه «مولانا»، ولكني أجبته «آسفاً» إنني أيضاً لم أفهم معنى الموقف الجديد لمولانا.. وبما أنني لم أشاهد تلك المقابلة التي أجرتها قناة «الشروق» السودانية مع مولانا الميرغني في أسمرا مساء الأحد الماضي، عدت لصحف الثلاثاء فوجدت رصداً لها بجريدة «أخبار اليوم» احتل ثلثي الصفحة الثانية، بعد أن كانت بعض صحف الاثنين قد أبرزت جزئية حديثه عن مقاطعته لمؤتمر جوبا، لكن «أخبار اليوم» التي رصدت معظم ما جاء في اللقاء تجاوزت هذه الجزئية. عكفتُ على قراءة الرصد أكثر من مرة في محاولة مخلصة لفهم كيف يفكر مولانا وكيف يخطط لدور الحزب الكبير في مواجهة الأزمة التي تمسك بخناق الوطن، لكنني - من أسف - فشلتُ فشلاً ذريعاً في أن أنتهي إلى تصور لما سيكون عليه موقف مولانا وموقف حزبه في مقبل الأيام، مثلما فشل مذيع القناة الذي أجرى المقابلة في الخروج بشيء يذكر، سوى تلك «الإدانة» لمؤتمر جوبا التي تناقض موقفه السابق في المكتب السياسي، ومقاطعته شخصياً للمؤتمر العام لحزب المؤتمر الوطني برغم وجوده حينها في الخرطوم. وهنا نماذج مختارة من حديث مولانا ل«الشروق»، وهو حديث «نادر» لأن مولانا ينفر بطبعه من الحديث للصحافة وأجهزة الإعلام، ولا يقدم عليه إلا مضطراً أو تحت ضغط الظروف الاستثنائية، لكنه في كل الأحوال وبرغم طول المقابلة تحدث دون أن «يقول شيئاً».. ما أوحى لنا بالعنوان أعلاه: «غابت الشمس ولم نفهم شيئاً»!! سأله المذيع مثلاً: عن مآلات الأمور كما يراها وفقاً لمؤشرات الشراكة التي استمرت الآن لأربع سنوات، والتصريحات والمواقف السالبة والقوية جداً التي تدعو ربما للانفصال، فكان رد السيد الميرغني: الانفصال لا نقول إلانفصال المناداة لن يكون هناك استقرار في الخرطوم ولا في جوبا ولن يكون هناك سلام.. إذا كنا عايزين ندخل في متاهات جديدة فينفصل الجنوب.. المذيع قطعاً لم يكن يسأل عن «تحليل» للمخاطر التي يمكن أن تترتب على الانفصال ليستمع إليه بهذه اللغة المضطربة، بل كان يبحث عن إجابة لموقف الزعيم وحزبه مما يجري في الساحة ورؤيته للخروج من الأزمة الناشبة، فأخذ يوضح للميرغني بعض حقائق الوضع المعلومة، فقال له: الاتفاقية أعطت أهل الجنوب حق تقرير المصير.. سيكون هناك استفتاء في نهاية هذه الفترة.. فأجابه مولانا بقوله: تقرير المصير لأول انتخابات عام 1954 وكان للحزب الاتحادي الديمقراطي أكثر من نصف الدوائر في جنوب السودان - لم يشأ طبعاً أن يقول الاسم الأصلي للحزب حينها «الوطني الاتحادي» - ويواصل: المسائل ممكن ولكن تحقق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون مسائل التلبيس واضحة كالشمس الناس يأخذون حذرهم منها.. هل فهمت شيئاً أيها القارئ الكريم؟! يعود المذيع أيضاً لنفس السؤال بإلحاح ليقول له: لكن مولانا للجنوبيين الحق الآن أن يحددوا في نهاية الفترة الانتقالية مصيرهم، هذا ما أعطاهم له الاتفاق، الآن أصبحوا جميعاً أمام أمر واقع لابد أن يتم الاستفتاء، لكن دعنا نقول هنا هل؟؟.. يقاطعه الميرغني ليقول: دعنا نقول أنا أتكلم مع النائب الأول لرئيس الجمهورية على أساس أن لابد أن يكون القرار هو الوحدة ونتفق على مضمون هذه الوحدة. مذيع الشروق من جانبه يقاطع أيضاً قائلاً: أنت تدعو لتعديل الاتفاقية وهو ممكن إذا اتفق الطرفان على ذلك.. هل تحدثتم مع الأطراف في هذا الموضوع لتعديل الاتفاقية؟ يجيب مولانا: لابد للوفاق الوطني الشامل حينما يجتمع الناس كلهم يصلوا إلى نتيجة لحل مشاكلهم إن كانت في دارفور أو في الجنوب أو في كل أجزاء الوطن. المذيع: أنت مع إلغاء الاستفتاء؟ يرد الميرغني بقوله: أنا لا أقول إلغاء استفتاء ولا توقيف انتخابات لكن انتخابات «بهذه الصورة»،.. الناخب حسب علمك يصوت لكم شخص عندما يحضر لصندوق الاقتراع!.. بعدها ثار جدل بينه وبين المذيع حول تعدد عملية التصويت وصعوبتها، إلى أن انتهى المذيع إلى سؤاله: مولانا أنت الآن مع تعديل الاتفاقية.. البعض كان يتحدث عن تمديد الفترة الانتقالية؟ فيجيبه السيد الميرغني بالقول: أنا لا أقول تعديل ولا ما تعديل، أنا بقول الناس كلها لازم تجتمع في صعيد واحد وفاق وطني شامل تطرح كل هذه المسائل، والحزب الاتحادي الديمقراطي من رأيه والأحزاب الأخرى والكيانات السياسية وأهل الحل والعقد يقولوا رأيهم وفي النهاية (نأمل) أن يتبلور رأي في مصلحة الوطن والمواطن. ويعود المذيع ليسأله سؤالاً واقعياً.. هل ترى ذلك ممكناً في ظل الظرف الحالي؟ فيجيب الميرغني: ممكن إذا خلصت النوايا. ليسأله من ثم مذيع الشروق: لكن الحركة الشعبية تظل متمسكة باتفاق السلام الشامل وما ورد فيه والمؤتمر الوطني أيضاً ملتزم؟ الميرغني يجيب: تحدثنا في هذا في القاهرة مرتين في دار الضيافة ثم توجهنا سوياً إلى دار السفير التقينا هناك ايضاً.. كلام واضح لابد أن كلنا نجتمع وهذه مسائل يقررها المؤتمر الوطني والحركة الشعبية على أساس هما من وقع اتفاق نيفاشا.. لم يسأله مذيع الشروق السؤال المتوقع والمتفرع عن هذا الجواب، وهو إذا كان «المؤتمر الوطني والحركة الشعبية» هما اللذان من حقهما إقرار التعديل أو رفضه، فما معنى مؤتمر الوفاق الوطني الشامل، هل هو ل«الجودية» أم «لمّة لعجائز الفرح» كما يقول المصريون؟، لكن المذيع سأله في وقت لاحق سؤالاً محدداً عن: ما هي أبرز النقاط التي تُعدُّون لطرحها من خلال مبادرة الوفاق الوطني الشامل التي تطرحونها الآن على القوى السياسية، ما هي أبرز هذه النقاط؟ فأجابه السيد الميرغني بقوله: هي نقطة واحدة أن يلتقي الجميع في صعيد واحد للتباحث في أمر حاضر ومستقبل الوطن دون إصرار على أشياء معينة، وأرى أيضاً في هذا اللقاء الناس (قد) يصلون إلى نتائج فيها مصلحة للوطن وللمواطنين، والوطن والمواطن يعلو علينا جميعاً على أشخاصنا على أحزابنا على كياناتنا، والمنظور يجب أن يكون من هذه الزاوية، لكن إذا كان النظر من المنظور الشخصي والحزبي لن نصل إلى نتيجة.. صحيح هناك تجرد كامل بما ينفع الناس.. ثم سأله المذيع إلى أين وصلت المبادرة وهل قدمتموها لكل الاحزاب؟ أجاب الميرغني: ووافقوا عليها لكن المشكلة الآن الجهة التي تدعو لها وتحدثت مع الرئيس أسياسي في هذا.. وبعد ذلك سأله: وهل ناقشت هذا الموضوع مع المؤتمر الوطني والرئيس البشير؟ فكان جواب السيد في شكل سؤال موجه للمذيع: هل هم عندهم قناعة بهذه.. على أساس أناقش لازم يكون في رضا. وبعد لا أريد أن أزعج القارئ الكريم بإيراد نماذج إضافية من حديث مولانا محمد عثمان الميرغني مع قناة «الشروق»، ولكن الحديث يقدم لقطة «بانورامية» شاملة للحالة السياسية والفكرية التي يعيشها حزب «الحركة الوطنية»، والتي انتهت به إلى ما هو معلوم للجميع من تفكك وتشرذم، ومع ذلك ندعو لحزب الوسط السوداني هذا أن يقيل الله عثراته ويعيد له العافية حتى يلعب دوره المرتجى.. آمين