الناظر إلى الساحة السياسية السودانية مع اقتراب موعد إغلاق باب الترشيح للانتخابات العامة، الذي ينتهي «زمنه الإضافي» اليوم بعد تمديده خمسة أيام من الجمعة (22 يناير) إلى الأربعاء (27 يناير)، لابد أن يلحظ حالة الاستقطاب والتوجس التي أنتجها هذا الزمن الإضافي مع «الارتجاج والتجميع» الذي أخذ يتبدى في قارورة التحالفات الانتخابية، ارتجاج وتجميع لم يكن منتظراً، وإن شكل هاجساً قديماً لدى الحزب الحاكم المؤتمر الوطني، الذي بذل جهوداً جبارة خلال الشهور القليلة الماضية للإبقاء على جبهة المعارضين منقسمة يعارض بعضها بعضاً بتقريب فريق منها وتغريب فرقاء آخرين. أكبر مظاهر هذا الاستقطاب تتمثل في عودة التشاكس بين الحزبين الحاكمين -المؤتمر الوطني والحركة الشعبية- فقد طالعتنا صحف الاثنين بتعليق الحوار بين الحزبين في أرقى مرجعياته، فجاء في «آخر لحظة» مثلاً أن المؤتمر الوطني أعلن أمس (الأحد) عن «تعليق الحوار مع الحركة الشعبية في كافة القضايا»، بعد أن فشل اجتماع اللجنة المشتركة برئاسة الأستاذ علي عثمان محمد طه نائب رئيس الجمهورية ود. رياك مشار نائب رئيس حكومة الجنوب، في الوصول إلى حلول بشأن القضايا العالقة بينهما التي أثارتها الحركة، خاصة تلك المتصلة بإعادة التعداد السكاني بجنوب كردفان أو إعادة النظر في الدوائر الجغرافية. ومعلوم أن «اللجنة المشتركة» هذه تمثل المرجعية العليا في التصدي للأزمات المتكررة بين الشريكين، وهي «المطبخ» الرئيسي الذي يحضر «الوجبات التوفيقية» التي توضع في النهاية على مائدة هيئة الرئاسة. وكانت بالفعل قد تقدمت بخطوات ومقترحات لحل مشكلة التعداد السكاني، من خلال زيادة عدد الدوائر الجغرافية في حصة الجنوب لمضاهاة الاختلالات التي تراها الحركة في عملية الإحصاء السكاني، لكن يبدو أن كل شيء أخذ الآن في التعثر، وأن شهوراً من العسرة والجفاء تنتظر هذه العلاقة. فقد نسبت «آخر لحظة» للناطق باسم الحركة ين ماثيو قوله «إن الوطني تقدم بطلب في اجتماع الأمس لتأجيل الحوار إلى ما بعد انتخابات أبريل.. وأن الوطني إذا لم يعد للحوار فلدينا خيارات سنكشف عنها في الوقت المناسب».. ووصف ماثيو تعليق الحوار من جانب الوطني باعتباره «خطوة مؤسفة.. قتلت الآلية الأخيرة لبناء الثقة بين طرفي نيفاشا». اللافت في موقف «الوطني» الجديد، القاضي بتعليق الحوار، هو أنه جاء مخالفاً لنهجه المعتاد في تعامله مع الحركة، فهو الذي كان يطالب دائماً بالعودة إلى مائدة الحوار بين الشريكين لحل أي خلاف، وليس اللجوء إلى المقاطعة والانسحاب و«الحرد» الذي اعتادت الحركة اللجوء إليه للضغط على شريكها كلما وقع خلاف أو تأزمت الأمور، فما الذي دعا «الوطني» هذه المرة لاستخدام «أسلحة الحركة» في مواجهة مطالبها وتعليق الحوار وليس تأجيله لاسبوع أو شهر، بل إلى «ما بعد انتخابات أبريل»، ما يعني بكلمات أخرى: لا حوار بيننا والفيصل هو صندوق الاقتراع، شارك من شارك وقاطع من قاطع، كما جاء على لسان نائب رئيس المجلس الوطني محمد الحسن الأمين؟ سؤال تكمن الإجابة عنه في «المستجدات» التي طرأت على الساحة خلال الأسبوعين الأخيرين، والتي يمكن ملاحظتها ورصدها في التطورات التالية: أولها: ترشيح الحركة الشعبية المفاجئ لرئيس قطاع الشمال ورئيس كتلتها البرلمانية ياسر عرمان لمنصب رئاسة الجمهورية، فبالإضافة إلى أنه ترشيح غير متوقع من جانب «الوطني»، الذي ربما كان ينتظر ترشيح شخصية جنوبية لهذا المنصب لا تنازع مرشحه أو تقاسمه الأصوات الشمالية، فإن عرمان من الشخصيات التي يحملها الوطني وزر التشاكس والخصومة مع الوطني، بخلفيته التاريخية اليسارية من جهة وبتصدره للصراع مع الوطني من جهة أخرى، من خلال ترؤسه لكتلتها البرلمانية التي كم ناكفت وكم قاطعت في مواجهة مشروعات الوطني التشريعية والقانونية. ثانياً: الوطني فوجئ أيضاً بتحرك مُنظم ابتعاداً عن دائرة «التنسيق» معه من جانب الاتحادي «الأصل» الذي كان يدخل ضمن مراهناته لدعم حملته الانتخابية الرئاسية والنيابية، خصوصاً في الشمال الأوسط ونهر النيل والشمالية، لكنه صحا على الحزب الكبير ذي النفوذ التقليدي الأوسع في تلك المناطق الحيوية يسمي مرشحه للرئاسه -في الوقت الإضافي- باختياره حاتم السر، أقرب المقربين للزعيم محمد عثمان الميرغني. ولم يقتصر تحرك الاتحادي المبتعد عن دائرة التنسيق مع الوطني، بل تعدى ذلك إلى اجتماعات تنسيقية بين «السيدين» الميرغني والمهدي، والتي كان من نتائجها الفورية ما أوردته «آخر لحظة» أيضاً من «تحالف بين الاتحادي والأمة»، ينتظر أن يتم الإعلان عنه خلال أيام «خوض الانتخابات في دوائر شمال الدبة والقولد بهدف الفوز بها على حساب المؤتمر الوطني». ثالثاًً: ترشيح الصادق المهدي لمنصب الرئاسة من جانب الأمة القومي، بعد طول تردد، والذي يقرأ في ضوء الرغبة - إن لم يكن التخطيط المسبق- من جانب قوى المعارضة لحرمان الرئيس البشير من الفوز الحاسم في الجولة الأولى للانتخابات، وهو الأمر الذي يتفق مع ما دعا إليه د. حسن الترابي علناً من «تشتيت الأصوات الانتخابية» في الجولة الأولى، ومن ثم ذهاب جميع قوى المعارضة لدعم المرشح الأوفر حظاً في مواجهة البشير، ربما استفادةً واستناداً إلى تجربته الشخصية في دائرة «الصحافة» التي حرمته من ولوج قبة البرلمان في آخر انتخابات تشريعية حرة عام 1986. رابعاً: التحذير الصادر من تحالف القوى السياسية بدارفور، الذي التأم شمله في دار حركة تحرير السودان بأم درمان، وحضرته أحزاب الأمة والمؤتمر الشعبي والشيوعي والأمة الإصلاح والتجديد، من مخاطر قيام الانتخابات في دارفور باعتباره يمثل «كارثة تتجاوز حدود الإقليم»، وحمل القيادي بالحركة الشعبية في تصريح له عقب الاجتماع قيادات الأحزاب السياسية والمجتمع الدولي «مسؤولية ما سيحدث»، تحذير يجيء في وقت تتعثر فيه خطى التفاوض في الدوحة مع الحركات المسلحة، ويجوب فيه مساعد الرئيس، رئيس حركة تحرير السودان مني ميناوي دارفور ويخاطب جماهيرها في الحواضر والبوادي، ملقياً باللائمة في تعثر أبوجا وتردي أحوال الإقليم على المؤتمر الوطني. كل ذلك، وغيره كثير، يجعل حالة الاستقطاب في تزايد مستمر، ويرفع من وتيرة التوجس لدى حزب المؤتمر الوطني، بأن تحت سواهي هذا «الارتجاج والتجميع» دواهي عليه أن يحذرها ويرتب أوضاعه لمواجهتها منذ الآن قبل فوات الأوان.