بقعة مضيئة جداً، نظيفة ومعقمة جداً، لوحة تشيكيلية أبدع من قاموا على رسمها وهندستها في اختيار ألوانها ومد خطوطها وسط حديقة مورقة وارفة الظلال على شاطئ سوبا، فتحولت إلى واحة طمأنينة تهفوا إليها القلوب الجريحة من فجاج الحروب والفقر والعذابات الأفريقية فتجد من الرأفة والرحمة والألطاف الربانية ما لا يخطر على قلب بشر، بأيدي أناس يسّرهم وسخرهم الله لخدمة الإنسان أينما كان بلا مقابل ولا تذاكر دخول أو فواتير علاج أو إقامة، مع إمتاع لنواظرهم وترطيب لأفئدتهم وتعبئة لنفوسهم بجرعات الثقة والأمل في مستقبل أفضل. ظهر الأربعاء الماضي ذهبت في رفقة الأخ والصديق د. عبد الباقي الجيلاني وزير الدولة للشؤون الإنسانية في أول زيارة له لمركز السلام لجراحة القلب، فقد أبدى الوزير الجيلاني حرصاً أكيداً على تلك الزيارة بعد أن أبلغته في وقت سابق عن ذلك المركز الواقع في ركن قصي من العاصمة الخرطوم، ومستوى أدائه وعظمة القدرات المتوفرة فيه وخدماته المجانية ذات المستوى الإنساني الرفيع التي يقدمها لكل المترددين عليه من قلب السودان وأطرافه ومن دول الجوار الأفريقية التسع المحيطة بحدود بلادنا. سافر الجيلاني إلى الأردن فتأجل اللقاء مرة، لكنه أصر على تجديده، حتى كانت تلك الرحلة الميمونة إلى مقر المركز، والتي رافقنا فيها الأخ والصديق د. خالد حسن إدريس من منطلق اهتمامه كرئيس سابق لمنظمات المجتمع المدني لمحاربة الفقر ورئيس حالي للجنة تسيير المنظمة الوليدة التي تحمل اسم (منظمة التكنولوجيا والاختراع لمحاصرة الفقر). فوجئ الوزير الجيلاني، الذي لم تمض على استلامه حقيبة الشؤون الإنسانية سوى شهور معدودة، مثلما فوجئ د. خالد بأن يكون كل هذا البهاء والهناء، والقدرات الاستثنائية التي تضارع أفخر المصحات والمشافي العالمية متوفرة بين يدي السودانيين على بعد أميال معدودة هنا على شاطئ سوبا، ويقودك إليه طريق أسفلتي قديم متعرج يعبر بك ضاحية سوبا الحلة حتى يلقي بك في تلك الواحة الفيحاء المدهشة استقبل العاملون في المركز الوزير ووفده بترحاب وفرح، وكانت في مقدمتهم دكتورة روزيلا ميكيو الشابة الإيطالية التي غطى ذكاؤها وإنجليزيتها الفصيحة وإندفاعها المهني وكرمها على حسنها الأخاذ، فأجلستنا أول الأمر في غرفة الاجتماعات وقامت ومن معها من الأطباء والعاملين بتقديم واجب الضيافة، وشرحت للوزير كل ما يتعلق بالمركز من تاريخ أنشائه والخدمات التي يقدمها والدور الإقليمي الذي يلعبه في شرق ووسط أفريقيا ودول الجوار، وعرضت لنا شريط فيديو لبعض عمليات القلب المفتوح التي يجريها المركز. ومن ثم أخذتنا في جولة على أقسام المركز وعياداته الخارجية وغرف العمليات وكافتيريا الطعام ومولدات الطاقة الشمسية والحرارية التي تؤمن للمركز إمداداً لا ينقطع من الكهرباء بالرغم من اتصاله بالشبكة القومية، وكذلك أخذتنا إلى الاستراحة التي يأوي إليها مرافقو المرضى من الأقاليم البعيدة ومن خارج السودان، حيث يوفر لهم السكن النظيف وتقدم لهم كل الخدمات الضرورية إلى أن يتشافى مريضهم ويعودون من حيث أتوا على متن طائرات المركز في رحلات مجانية أيضاً. مركز السلام لجراحة القلب يعمل تحت مظلة منظمة الطوارئ( EMERGENCY) الطوعية العالمية، التي انبثقت من إيطاليا عام 1994م، كمنظمة مستقلة ومحايدة هدفها تقديم خدمات نوعية ومجانية طبية وجراحية لضحايا الحروب والألغام والفقر ونشر ثقافة السلام والتضامن واحترام حقوق الإنسان، وتقيم مقارها وتسيرها بواسطة خبراء وأخصائيين عالميين يقومون أيضاً بتدريب الكوادر المحلية وتنتشر مقارها في العديد من البلدان التي شهدت نزاعات وحروباً مدمرة ومنها أفغانستان وكمبوديا والعراق وسيراليون وسريلانكا والسودان، بالإضافة إلى بلد المنشأ إيطاليا، التي تستقبل بحكم موقعها مهاجرين أفارقة وآسيويين دفعت بهم النزاعات إلى مغادرة أوطانهم ويحتاجون فيما يحتاجون للرعاية الطبية منظمة (إميرجينسي) - أو الطوارئ- تتنبى شعار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي أطلق في باريس في العاشر من ديسمبر عام 1948م وتتخذ منه موجهاً أساسياً لأعمالها، وهو الشعار القائل ب (كل الناس يولدون أحراراً ومتساوين في الكرامة والحقوق.. والاعتراف بهذا المبدأ.. هو أساس الحرية والعدالة والسلام في العالم) ويبدو أن التزامها بهذا النهج الذي يقرره ذلك الشعار هو سر النجاحات العظيمة والتطور السريع والانتشار الواسع الذي حققته المنظمة في زمن قياسي، فنظرة سريعة إلى موازنة المنظمة والارتفاع الذي شهدته أرقامها بمتوالية هندسية مذهلة يؤكد مثل هذا الاستنتاج فالمنظمة التي أنشئت في عام 1994م وتشكل تبرعات الخيرين أفراداً وهيئات، موردها الأساسي ، بدأت موازنتها في عام الانطلاق (1994) بأقل من نصف مليون يورو وتحديداً ( 435.977) لتصل تلك الموازنة بعد عامين (1996) إلى (1.582.883) يورو أي إلى ثلاثة أضعاف، وبعد ستة أعوام إلى قرابة الأربعة ملايين، ويستمر التصاعد عاماً بعد آخر إلى أن يبلغ الرقم (17.500.000) بحلول العام (2008)، وتتمكن بذلك من إقامة منشآتها والحصول على أحدث المعدات الطبية اللازمة لأداء عملها ولتوفر أسطولاً جوياً وبرياً للنقل المجاني لمحتاجي خدماتها أينما كانوا. أما عن مركز السلام بسوبا فتقول منشوراته إنه (مشروع لإزكاء علاقات الصداقة والتعاون بين مختلف الأقطار من أجل دعم عملية السلام في منطقة مزّقتها الحروب وتعاني ويلات الفقر)، ولم يكن اختيار (القلب) ليكون موضوع اهتمام المركز وأساس عمله اختياراً عشوائياً، فكما أبلغني مدير المركز في لقاء سابق معه عن سبب ذلك الاختيار ، فإن القلب من أكثر أعضاء الجسم الإنساني تأثراً بفواجع الحروب والنزاعات والاضطرابات، كما أثبتت الدراسات العلمية وبالتالي فإن الاهتمام به يجب أن يأخذ أولوية، خصوصاً بالنظر إلى التكلفة العالية التي لا يطيقها الفقراء من المدنيين الذين عادة ما يكونون الضحايا الأكثر تأثراً بالحروب والنزاعات في نهاية تلك الجولة اختار الوزير الجيلاني الجلوس على (بنبر) سوداني بأحد مكاتب المركز، الذي استفاد فائدة تسر الناظرين في تصميم مظلاته وستائره الواقية من أشعة الشمس بالمواد المحلية كالقنا وحبال العناقريب، جلس وعبّر لمسؤولي المركز وفي مقدمتهم الطبيبة روزيلا ميكيو عن سروره وإعجابه ودهشته لما رآه ، ووعدهم بأن تكون وزارته وشخصه في خدمة هذا العمل الجليل، وأن لا يترددوا أبداً في زيارته أو الاتصال المباشر به في أية لحظة من أجل أي خدمة كانت أو تسهيلات يرون أنها تفيد عملهم أو تختصر عليهم الوقت. فودعونا حتى الباب بسلام آمنين.. شكراً لمركز السلام لجراحة القلب.. ولمنظمة إميرجنسي (مني ليك سلام).