مرة أخرى، أجد نفسي مشبوكاً ومشدوداً للكتابة عن مركز السلام لجراحة القلب الكائن بسوبا «الحلَّة»، والتابع لمنظمة الطوارئ الإنسانية الدولية- EMER GENCY- المنطلقة من إيطاليا. «شِبكتي» وانشدادي لمركز السلام كانت شخصية جداً، بقدر ما هي موضوعية.. اندغم واختلط فيها الخاص بالعام.. ففي شهر مايو الماضي فاجأت ابن أختي وأخي وصديقي ورفيق غربتي حيدر مبارك جلطة، لم تسبقها مقدمات كأمراض السكري أو الضغط العالي، بل دهمته وهو في كامل صحته ونشاطه بينما كان يتناول شاي الصباح ويستعد لمغادرة منزله لممارسة أعماله وأداء واجباته اليومية. وبما أن حيدر متخصص في عمل المختبرات، فقد تنبه على الفور لما أصابه ولم يوفِّر وقتاً أو يتباطأ في الهروع إلى أقرب مركز صحي ثم إلى أقرب مستشفى، فنجا من عقابيل الكارثة الصحية المفاجئة بلطف الله ورحمته و«بجكَّته» هو وتوسله بالأسباب، تماماً كما قال أحدهم لشيخه أنه قرأ «يسن» عدة مرات ولم يحصل على مبتغاه، فقال له الشيخ الحكيم «يسن دايراله جكَّة». كشفت الفحوصات الطبية أن حيدر يعاني من انسداد في أحد الشرايين الفرعية ولابد له من إجراء عملية قلب أو صدر مفتوح، «فنقز الفار في عِبّنا جميعاً»، وبدأ التفكير وتقليب الخيارات الممكنة والاتصالات بالخارج من أجل اختيار مستشفى لإجراء العملية الكبيرة، وكان رأيي منذ البداية أن الخيار الأفضل والأسهل هو مركز السلام بسوبا، لأنني أعرف مستوى الأداء وطرائق العمل والإدارة في هذا المركز، الذي زرته مستشفياً أكثر من مرة وأجريت لقاءات صحفية مع مسؤوليه وتعرفت عبرتحقيق متقصٍ أن هذا المركز على درجة من الكفاءة لانظير لها في عالمنا العربي، وتيقنت أنه لايقل عن أفضل المشافي المتخصصة في أوربا وأمريكا إن لم يكن يتفوق عليها، نظراً لحداثته، إذ أنه جاء بعدها وانتخب أفضل وآخر ما انتجته مصانع الأجهزة الطبية في تلك البلاد واستجلبه ليعمل عليه في هذا المركز الإقليمي المتخصص في علاج وجراحة القلب، كما أنه يستعين في عمله بأكثر الأطباء والجراحين كفاءة وعلماً في هذا المجال. ومن حسن حظ حيدر أن جاء وقت عمليته أثناء زيارة أحد أشهر جراحي القلب في العالم وأكثرهم خبرة الذي يطوف على مستشفيات وجامعات كثيرة حول العالم، هو البروفيسور ميكيلي دي سوما، الذي تقول سيرته الذاتية إنه أجرى أكثر من «4000» عملية قلب مفتوح وأكثر من ألف عملية زراعة قلب، هذا غير آلاف أخرى من عمليات جراحة المنظار لفتح الشرايين وإزالة الجلطات. يتصف مركز السلام بإدارة طبية محكمة ودقيقة تهتم بالحفاظ على نظافته وتعقيمه بدرجة استثنائية، يقوم عليها مدير شاب هو عمانويل نانّيني، وهذا أول مدخل للنجاح لأي مستشفى أو مركز طبي كان، ومع ذلك، وبرغم إصراره وإصرار العاملين معه على اتباع النظم الإدارية الصارمة، يعرف كيف يقنعك وبغاية اللطف والتهذيب أن صرامتهم وأحكامهم لإجراءات الدخول والحركة في داخل المركز ضرورية للحفاظ على صحة المريض ومساعدته، هذا بالإضافة إلى أن المركز مزروع وبتخيُّرٍ مقصود وسط حديقة غناء للمانجو على شاطئ سوبا، وتنتشر في وسطه وعلى جنباته الميادين الخضراء والأزاهير المختلفة الألوان والأشكال، لقناعة بأن كل ذلك يساعد القلب المريض على التعافي والشفاء.المنظمة الإنسانية الدولية«إميرجنسي»، أي الطوارئ ، هيئة طوعية مستقلة ومحايدة تأسست في إيطاليا عام 1994م، وهدفها مساعدة الناس في مناطق الحروب والنزاعات، حيث تقوم ببناء المستشفيات والمراكز الصحية في مختلف التخصصات وتقديم الخدمات الطبية وإعادة التأهيل مجاناً، انطلاقاً من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر في العاشر من ديسمبر 1948م في باريس، والذي يقول في المادة الأولى من مبادئه «كل الناس يولدون أحراراً ومتساوين في الكرامة والحقوق» وإن الاعتراف بهذا المبدأ يتمثل في «إقامة الحرية والعدالة والسلام في العالم». وبحلول عام 1999 تمّ تسجيل المنظمة كهيئة غير حكومية لدى وزارة الخارجية الإيطالية، ومن ثم انطلقت في العمل، اعتماداً على تبرعات الخيِّرين، فأسست ثلاث مستشفيات في أفغانستان منها مركز للجراحة لضحايا الحرب في «وادي بانشير» حيث حولت ثكنة عسكرية إلى مركز للعلاج، وفي العام 2001م افتتحت مركزاً آخر في العاصمة كابول، وفي العام 2004م أنشأت مركزاً ثالثاً للجراحة في «لاشخار قاه» عاصمة إقليم هيلماند، وتهتم جميعها بجرحى الحرب والألغام. وقد امتد نشاط المنظمة في مختلف مجالات التطبيب والجراحة إلى كل من كمبوديا والعراق وسيراليون وسريلانكا حتى وصل إلى السودان، حيث أقامت بالإضافة إلى مركز السلام في سوبا مراكز فرعية في حي مايو جنوبي الخرطوم ونيالا، وتزمع افتتاح آخر قريباً في بورتسودان وفي وقت لاحق في جوبا. أما مركز السلام في سوبا فهو مركز إقليمي لخدمة شرق وغرب ووسط أفريقيا وبعض الدول العربية، يمتد نشاطه وعمله لاستقبال مرضى من نحو «16» دولة منها أفريقيا الوسطى وتشاد والكونغو وجيبوتي وأريتريا واثيوبيا والعراق- برغم وجود مركز بها لكنه غير متخصص في القلب - والأردن وكينيا ونيجيريا ورواندا وسيراليون والصومال وتنزانيا ويوغندا وزامبيا. وتقول آخر إحصائية أصدرها المركز أنه أجرى كشف أولي على(19546) بينها (12451) فحص متكامل للقلب، وأجرى(1902) عملية جراحية ذات أغراض متصلة بالقلب والشرايين، بعضها جراحة مناظير وبعضها جراحة قلب مفتوح. قيل قديماً انه من لا يشكر الناس لا يشكر الله، لأن الله هو الذي يسخِّر الناس لخدمة بعضهم بعضاً، بغض النظر عن عرقهم أو لونهم أو معتقداتهم. وقد سخَّر الله هذه المنظمة الإنسانية الرؤوفة والكريمة «إميرجنسي» لخدمة بني البشر في كل مكان، ومن بين تلك الأمكنة السودان الذي اختارته مقراً لمركزها الإقليمي الأهم الذي اختارت له اسماً من أسماء الله الحسنى، مثلما هو اسم ومعنى من معاني القيم الإنسانية العليا:«السلام»، فلها منا ألف تحية مقرونة بجزيل الشكر وعظيم الامتنان.والحمد والثناء كله من قبل ومن بعد لله الشافي الكافي الذي منّ على حيدر بالشفاء وكفاه شر المرض، مع أمنياتنا له بعمر مديد مبذول في فعل الخير وصالح الأعمال.. آمين.