بعد مرور أكثر من أسبوع على بدء الحملة الانتخابية، وبعد احتجاجات ضاجة من قبل مرشحين رئاسيين على الطريقة التي تدار بها الحملة الانتخابية من جانب المفوضية وأجهزة الإعلام، وهما مرشحان من الوزن الثقيل وثالث مهم - ياسر عرمان مرشح الحركة الشعبية- وحاتم السر مرشح الاتحادي الديموقراطي الأصل- ومنير شيخ الدين مرشح الحزب القومي الجديد- أصدرت المفوضية القومية للانتخابات منشوراً لتنظيم الأنشطة الحزبية بشأن الانتخابات، الذي قالت إن غرضه «تهيئة بيئة صالحة للحراك السياسي وترويج البرامج الانتخابية بقدر عالٍ من حرية التنظيم والتعبير». المنشور اهتم بمسارين من مسارات الحملة الانتخابية، وهما أخذ الإذن عند الإقدام على أي نشاط انتخابي، وتوزيع الفرص التي سماها (عادلة) بين المرشحين والأحزاب المتنافسة في الانتخابات، لكن قراءة مدققة تكشف على الفور أن المنشور الموقع من جانب مولانا أبيل ألير رئيس المفوضية قد «فسر الماء بعد الجهد بالماء»، فهو بالإضافة إلى ارتكازه على قانون الانتخابات لعام (2008) وقانون الأحزاب لعام (2007) يذهب إلى الأخذ بقانون الإجراءات الجنائية لعام (1991) وبعض مواده المختلف عليها المتصلة بتسيير المواكب والتجمعات والندوات، والتي لم تخضع للتعديل أو التغيير لتوائم الدستور الانتقالي، مثلما لم يأت بجديد فيما يتعلق بتنظيم الدعاية الانتخابية عبر أجهزة الاعلام القومية. وفيما يلي بعض النماذج مما جاء في المنشور المطول، والذي يحث على معاملة المرشحين والأحزاب على قدم المساواة وبحياد تام على احترام القانون والمحافظة على الأمن والسلامة والطمأنينة العامة من جانب المرشحين والأحزاب، وعدم القيام بما يؤجج الصراعات والفتن والدعوة للكراهية والتحريض على العنف ويخلق التوترات الطائفية والدينية والعرقية. في المادة (23) البند (و) من المنشور تتحدث المفوضية، فيما يتصل بمساواة الفرص بين الأحزاب والمرشحين- فتقول: مُراعاة أحكام المادة (69) من القانون «بتخفيف مظاهر السلطة» عند تصريف الأعمال العمومية اليومية للابتعاد عن «شبهة الاستغلال» أثناء أداء الواجبات العمومية في الدعاية الانتخابية. وأي قاريء لهذا النص، مهما كانت درجة وعيه القانوني أو السياسي لا بد أن يلاحظ حجم التساهل والأريحية والافتقار الى الضبط الذي تنطوي عليه عبارات مثل «تخفيف مظاهر السلطة»، بحيث يصبح ذلك «التخفيف» مسألة تقديرية متروكة «للسلطة» التي لا سلطة للمفوضية عليها لتحديد درجة ذلك التخفيف أو توصيفه بإجراءات دقيقة ومضبوطة تشكل مخالفتها وقوعاً في المحظور، كما لم يتضمن المنشور أي ملاحقات قانونية أو إجراءات عقابية يمكن أن تطال الحزب أو المرشح الذي يرتكب مخالفة «الاستغلال» أو يقع في شبهته، ويندرج مثل هذا النص بالتالي في «خانة المناصحة» أو «المناشدة» لا أكثر. لكن الأمر يختلف عندما يأتي المنشور لتنظيم الحملات الانتخابية، فبالرغم من عمومية النصوص وشمولها لأحزاب الحكومة والمعارضة، إلا أنها لا تخلو من إشارة «إياك أعني واسمعي يا جارة» أو يا معارضة، وذلك استناداً الى التجارب المعاشة، ومحاولات المعارضة إقامة ندوات أو تنظيم تجمعات أو تسيير مواكب عوملت كلها بناء على المادة (127) من قانون الإجراءات الجنائية لعام 1991، دون أن ينتبه مصممو المنشور للقاعدة القانونية التي تتحدث عن سيادة القانون الخاص، وهو هنا «قانون الانتخابات» على القانون العام وهو «قانون الإجراءات الجنائية، فمقتضيات الانتخابات وحملتها الانتخابية تحتم تفعيل هذه القاعدة القانونية، وحصر قانون الإجراءات في حدود «الإخطار» الروتيني من أجل توفير الحماية لا أكثر ولا أقل، وفي مدة زمنية قصيرة لا تؤثر على الترتيبات الخاصة بتسيير المواكب أو عقد الندوات أو الليالي السياسية، ويمكن أكثر من ذلك أن يتم تجاهل الإخطار في الحالات غير الضرورية مثل عقد الندوات في مكان محصور أو في دور الأحزاب، ولكن يبدو أن المفوضية لأسباب وتقديرات تخصها قررت أن تصبح في منشورها «ملكية أكثر من الملك» بإصدار نصوص متناقضة فيما يخص عقد الندوات في داخل دور الأحزاب فنقرأ في المادة الرابعة من المنشور مثلاً ما يلي: 4-(1) «يكون لأي مرشح أو حزب سياسي الحق في عقد اجتماعات عامة أو ندوات ولقاءات داخل دورها أو مقارها في مدة الحملة الانتخابية دون الحصول على موافقة مسبقة من السلطة المختصة». لكنها تعود في البند (2) من نفس المادة لتقول: «على الرغم من أحكام البند (1) - يجب- على أي حزب سياسي أو مرشح إخطار السلطة المختصة قبل (72) ساعة من موعد انعقاد الاجتماع في داره بموجب إخطار مكتوب يحدد فيه ميعاد الاجتماع وموضوعه أو حال تحديده إذا كانت الظروف تدعو لعقده في مدة أقل من ذلك، وفي هذه الحالة (يكون للسلطة) المختصة سلطة تقدير ذلك، والغرض من الإخطار التأمين والحماية وتنظيم المرور» وهذا يعني ببساطة أنه إذا لم يتم الإخطار قبل (ثلاثة أيام) فإنه سيصبح من حق السلطة المختصة -أي الأجهزة الشرطية والأمنية- سلطة تقدير أن يعقد مثل هذا الاجتماع في دار الحزب المعني أو المرشح أم لا. أما فيما يتّصل بتنظيم الندوات أو اللقاءات الجماهيرية في الميادين والأماكن العامة فالبند (2) من المادة (5) من منشور المفوضية فينص صراحة على الآتي: «على الرغم من أحكام البند (1) يجب الحصول على الموافقة من السلطة المختصة قبل وقت كافٍ لا يقل عن (72) ساعة» مع الإشارة إلى ذلك لأغراض التأمين والحماية وتنظيم حركة المرور» والأمر نفسه ينطبق في المادة (6) على تسيير المواكب، «بالإخطار والحصول على الموافقة، مع تحديد مسبق ل«مكان وبداية الموكب وخط السير ونقطة نهايته» وهنا قد يكون الأمر مفهوماً بالنسبة للضرورات المتعلقة بإجراءات التأمين والحماية وتنظيم حركة المرور وأي ترتيبات أخرى تتضمن سلامة الموكب، مع ملاحظة عدم ضرورة تطويل المدة التي تسبق الإخطار والحصول على الموافقة، والتي كان يمكن أن تختصر في (24) ساعة نظراً لمحدودية أجل الحملة الانتخابية البالغ (56) يوماً. وعندما نأتي لموضوع الفرص المتساوية في أجهزة الإعلام القومية، فإننا نجد أن احتجاجات المرشحين من غير الحزب الحاكم قد انصبت على ضيق الزمن الممنوح لهم في هذه الأجهزة، الذي حدد بعشرين دقيقة لكل مرشح، وبزمن محدود لعرض موجز لبرامج الأحزاب، بينما بدا واضحاً لأي مشاهد للتلفزيون أو مستمع للإذاعة أو قاريء لنشرات وكالة الأنباء الرسمية ورصيفاتها أن مرشحي الحكومة لكل المناصب التشريعية والتنفيذية يستمتعون بالحظ الأوفر من الدعاية الانتخابية، ولن تجدي «النصائح» التي تضمنها المنشور والقائلة ب«تخفيف مظاهر السلطة» منعاً «لشبهة الاستغلال»، فما لم تتمكن المفوضية بما يضمنه لها قانون الانتخابات من سلطات من «وضع الحبل على الجرار» كما يقول الشوام وتفعّل دورها وتتخذ من القرارات الحاسمة فإن شبهة الاستغلال لن تكون مجرد «شبهة» بل «حقيقة» تسعى بين الناس، وهي بذلك سوف تتحمل المسؤولية التاريخية المترتبة على هذه الحقيقة وأشفق عليها من أن تبوء بغضب من الشعب ومن خالقه العلي القدير، جراء ما قد تجلبه مثل هذه الاختلالات من غوائل وإحنٍ للوطن تفوق طاقة احتماله، وهو الذي لم يبق في جسده موضع «لنصل» جديد.. «فالفينا مكفينا» كما يقول أهلنا.