في كل الدنيا تشتعل نغمة الزمن الجميل ، لكن في السودان بالذات يكثر الترحم على الماضي ، في اليوم الراهن تجد الرجل أو المرأة يسير في الشارع وحينما تنظر إلى الواحد منهم تتصور انه مصاب بجرثومة (حرقان) المعدة من شدة القرف ، يعني حالة تقرف ( الليمون سقايته عليا ) ، المهم الكل تجده يتحدث عن العلاقات الاجتماعية زمآآآآآآآن وعن الناس الطيبين وكيف ان الأمراض كانت اقل مما هو عليه الآن وتطول القائمة وتتضمن أخلاقيات البشر وحتى الطعام ومستوى التعليم ومجريات السياسة والانتخابات إلى غيرها من حراك الحياة ، وفي الفن لازال الناس يترحمون على زمان الغناء الجميل ، وفي مجال الدراما تجدنا نتحدث عن بدايات المسرح القومي والذي منه ، لكن دعوني اسأل والسؤال ، هل صحيح ان كل شيء في الماضي كان مبهجا وجميلا أم ان خيال الإنسان في الوقت الراهن يصور له ان واقع الحياة الان ومجرياتها أصبح معتما وليس فيه ما يبهج كما ترجم ذلك زميلنا الروائي السعودي الكبير عبده خال في مجموعته القصصية ( ليس هناك ما يبهج ) ؟ ، احد أصدقائي عاش في ألغربه سنوات طويلة ، حدثني ان الحنين ساقه إلى السودان ، كان يعتقد ان الناس لا زالت كما كانت في زمان الحواري والأحياء الشعبية والجار الذي يتفقد جاره اذا غاب ، ولكنه شاهد وعاش سيناريوهات يشيب من هولها الفرسان حسب قوله ، يقول صاحبي خرجت بعربتي ذات صباح بهي قاصدا القرية الصغيرة التي شهدت صرختي الأولى في الحياة ، كنت اشتاق لرؤية منزلنا القديم والزقاق الصغير الذي تشمخ في آخره شجرة نيم عتيقة ، كنت احن لشقشقة العصافير في الصباح وهي تزهو وتنفض ريشها في شمس الشتاء الناعمة ، المهم وصلت القرية بعد رحلة تضمنت نقاط تفتيش عشوائية ورجال وجوههم صارمة لا تضحك للرغيف الساخن ، شعرت كأنني أعيش في متاهة ، وحسب قول صاحبي انه لم يتعرف على منزلهم القديم ، فقد وجد كل شيء تغير ، الزقاق انتهت معالمه ، وشجرة النيم الله وحده اعلم أين ذهبت ، والبيوت القديمة سكنها قوم تقرأ في أعينهم الفضول والخبث يمشون بخطوات سريعة كأنهم مصابون بالحرقان المعوي ، صاحبي المسكين بحث عن واحد من سكان القرية القدامى ، ليشكو له ما أصاب البلدة وزقاقهم القديم وتغير ملامحه لكن لم يجد غير الخواء وبكاء الريح وهي تعبر في تصدعات الحيطان القديمة ، إلى هنا انتهت قصة صاحبي الذي ذهب لتفقد مراتع طفولته وصباه وأصيب بالصدمة الكبرى ، على فكرة يقول الشاعر ( نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيب سوانا ) ، الله ما أجمل هذا الكلام ، العيب يا جماعة الخير ليس في الزمن وانما في الإنسان نفسه ، فالزمان لم يتغير وانما نفوس البشر هي التي تغيرت بزاوية 360 درجة ، وأصبح الفرد السوداني رجلا أو امرأة يمشي كأنه مصاب بحرقة في المعدة ، يا ساتر استر ، ولا يسعني هنا سوى الهتاف مع الأغنية القديمة ( قول للزمان ارجع يا زمان ) ، وحليل زمن الصبا الماضي ، قوم حرقان لمن يقصف معدتك ، قال ماضي قال .