قالت السيدة وداد لقناة «إم بي سي»، إن ابنها أحمد سألها عما إذا كان بإمكانه لقاء «إيداهور» مرة أخرى.. تعجبت، لم تدرك معنى السؤال.. لم تتصور أن عقل أحمد سيصور له أنه إذا مات فإنه سيصبح بإمكانه لقاء لاعبه المفضل في العالم الآخر. قطعاً وداد اعتبرت سؤال طفلها بعضاً من هزر وشقاوة العيال، فانصرفت تهتم وتدبر شؤون بيتها الكائن في تلك الضاحية النائية شمال الخرطوم بحري «أم القرى» التي أخذت اسمها من مهبط الوحي مكة. أما والده «آدم» فحدث القناة بأن أحمد كان يعشق المريخ منذ أن كان في السابعة ويكره أن يتعرض أيٌّ من لاعبيه للأذى، وكان يتسمر أمام شاشة التلفزيون- كما أكدت أمه- لمتابعة مبارياته، وكانت تنتابه فرحة طاغية عندما يحرز الفريق هدفاً، فيجري ويرمح في باحة المنزل رافعاً علامة النصر بأصبعيه. من المؤكد أن آدم ووداد، وهما الأقربان، لم يدُر بخلدهما يوماً، كما الأبعدِين، أن أحمد ابن الحادية عشرة سيعلق نفسه ليقضي نحبه انتحاراً حتى يلحق بمعشوقه النجم «إيداهور» في دار البقاء، وهو قطعاً لم يعرف إيداهور «شخصياً» أو يلتقيه كفاحاً في دار الدنيا، كل العلاقة نشأت بينهما عبر شاشة التلفزيون أو صوت مذيع المباريات في الراديو؛ عندما ينقطع التيار الكهربائي ويضطر أحمد لمتابعة أحداث المباراة من المذياع. إنها حالة وجد وجذب «صوفي» يتحول فيها المعشوق «النجم» إلى «مقدس» لدى العاشق المستعد للفناء والتلاشي في ذات محبوبه. أحمد والآلاف وربما الملايين ممن هم في جيله، محلياً وعربياً ودولياً، تعرضوا عبر الإعلام الرياضي المشاهد والمسموع والمقروء، لغسل دماغ خطير، وجّه وعيهم وثقافتهم وآمالهم وطموحاتهم كلها باتجاه واحد هو الرياضة، وكرة القدم تحديداً، لتبدأ الدنيا وتنتهي عندهم بانتصار أو هزيمة هذا الفريق أو ذاك، وليتفجر الأسى وتعم الأحزان مرابعهم لإصابة هذا النجم أو ذاك، ولتصل الفجيعة ببعضهم حد اتخاذ القرار الحاسم بأن «باطن الأرض خير من ظاهرها» إذا ما فقد نجمٌ حياته أثناء إحدى المباريات كما جرى لإيداهور. لكن الأدهى وأمر أن الرياضة، وأكثر ألعابها شعبية «كرة القدم»، قد تحولت إلى حروب حقيقية تسيل فيها الدماء على الملاعب، عندما يهزم فريق فريقاً آخر في مباراة حاسمة، فقد شهدنا جميعاً لقاء الفريق المصري مع رصيفه الجزائري وما ترتب على تلك المباراة من معارك وملاحقات خرجت من الميدان إلى الشوارع، وكيف أنه كان على قوات الشرطة والأمن السوداني حشد الآلاف من منسوبيها للسيطرة على الموقف واحتواء الأزمة، في مشهد تكرر في الميادين في دول كثيرة عبر العالم. لم تُبتدَع الرياضة أو تُخلق لهذا، لكنها انحرفت عن أهدافها الحقيقية المتمثلة في بناء الأجسام السليمة والترويح وتعبئة فراغ الشباب؛ وتوجيه طاقاتهم نحو الأنشطة البناءة وصرفها عن اللهو الضار ومد جسور التواصل والتعاون والصداقة والمحبة بينهم، انحرفت عن كل تلك الأهداف الخيرة لتصبح نوعاً من «الأفيون» المخدر والمدمر والقاتل. ذلك لأن الرياضة قد تحولت بين عشية وضحاها إلى «استثمار».. استثمار شرِه للأغنياء والوجهاء ذوي السطوة، فتحول النادي الذي كان يبنيه أبناء الحي بعرقهم وجهدهم الذاتي والتبرعات التي يتكرم بها الأهالي، إلى مؤسسة استثمارية يبذل فيها أولئك الوجهاء الملايين والمليارات للاستحواذ على القرار فيها وشراء اللاعبين المحترفين، ويعرفون كيف يستردونها من ريع المباريات أو الإعلانات.. فهم دافعهم الأول والأخير كان دائماً «الربح» ولا شيء غير الربح.. وهم أصلاً غرباء على عالم الرياضة، لكنهم رأوا فيها صيداً ثميناً وسهلاً لابد من الظفر به، مهما كان الثمن. لم يكن «الوجهاء الأشرار» وحدهم المسؤولين عن الانحراف بالرياض عن مقاصدها الخيرة، بل دخل إلى حلبة المنافسة بعض الساسة وبعض الدول، لخدمة أهداف أخرى تهمهم، وهي جعل الرياضة والمنافسات الرياضية «شغلاً» شاغلاً للشباب يصرفهم عن قضايا الأوطان الكبرى، المتمثلة في التنمية والعلم النافع والتفكير في أحوال بلادهم ومشاكلها وأزماتها؛ التي هي من فعل هؤلاء الساسة الحكام وبعض غرسهم الذي أنتج حصرماً وزقوماً، فعملوا بدورهم لتحويل الرياضة إلى نوع من «الهوس» المنتج «للهلوسة والتشنج» الذي يقود في نهاية المطاف إلى الانتحار الجسدي، وإلا فالانتحار المعنوي والانحراف السايكولوجي.ذهب الطفل أحمد آدم للقاء ربه غريراً بريئاً لم يبلغ رشده، ودمه معلق على رقاب أولئك الذين حولوا الرياضة إلى غسيل لأدمغة الصغار وأفيون للشعوب خدمةً لأهدافهم الخاصة، وأجهزة الإعلام التي تنفخ صباح مساء في ذلك المنهج وتسخر ساعات بثها وصفحات صحفها لنشر هذه الثقافة المنحرفة ليست من كل ذلك براءً، فمتى يفيق هؤلاء جميعاً من شرور أنفسهم وسيئات أعمالهم ويخافون الله في النشء والشباب؟!نعم إنها حالة عصاب وجنون دولي و«تسونامي» عابرة للقارات، لكن هذا لا يعفينا عن مسؤوليتنا في ما يلينا، فتعالوا نبدأ بأنفسنا!