في أمسية أروقة للثقافة والفنون بقاعة المصارف بالخرطوم، وبمناسبة صدور ثلاثة من دواوين الشعراء الشباب، وكتاب بعنوان (متسع آخر) الذي يحوي قصصاً قصيرة جداً، ووجود ضيف شرف نجم اشرأبت إليه الأعناق. في تلك الأمسية حالفني الحظ أن أكون بجوار الأديب الخلوق الصديق سعد الدين إبراهيم، وهو يهمس في أذني أنه يتابع مقالاتي متحسراً على ابتعادي عن التراث والثقافة ومعاقراً السياسة والمنظمات ودارفور.. سقطت كلمات سعد الدين في أحشائي مثل قطع الزئبق فإن صديقي لا يتخيل فجيعتي في دارفور ومحاولاتي للتكفير عن ما صنعت أيدينا. أحاط بنا وبالقاعة صوت مفعم رخيم في تلاوة آيات من كتاب الله في بداية غير تقليدية لليلة الشعر والرواية والقصة، وبعد التلاوة أعلن البداية من خلال حديث مثل نثر الدرر، يقدم فرسان سحر الأماسي والجديد في بستان الفرح والألق إنه الأستاذ السمؤال خلف الله، رجلٌ إذا استغرقت فيه، امتلأت به وإذا غادرته انفرط عقد النظام العام في الطريق(وقطعت الصبايا أيديهن وقلن حاشا لله) ولا نتعرض للحد أو التعزير. انفجرت ينابيع الفرح والشعر الرصين من شبابٍ واعدٍ لحاضرٍ حلو ولغدٍ أحلى، وسرت الرعشات مثل دبيب النمل الممتع فتذكرت شبابي، أنصب الشباك بدوزنات الشعر والكلمات المزهرة لفريستي بنت ود الجاك في شاطئ النيل. وجاء دور ضيف الشرف في ليلة الأروقة.. الروائي الذي ينتمي إلى الزمن المزدان بالثقافة والفنون وحكاوي الحكمة وتراكم الخبرات والمعرفة.. ضيف الشرف هو الأستاذ محمد حسن أحمد البشير الذي أطل بروايته (تلميذ من المدرسة) جمع فيها معاني الأصالة والموروثات من القيم النبيلة وحياة الريف السوداني بطهرها ونقائها في علاقة الفرد بمجتمعه من بدايات الصبا حتى الرجولة، وظاهر العلاقة في الجريمة والعقاب والنجاح والفشل والحرية والقمع وبين الاختيار والتسيير، ففي فصل المجزرة يجسد الروائي في تلميذ المدرسة معنى (ليكم اللحم ولنا العظم)«والقراية أم دق»، ودور الصبي في الإسهام في معاش الأسرة، في رحلة طحن الغلال، في مشاوير الرهق والإمتاع، بينما حياة ونمو الصبي تسير في الرواية.. يصطخب الحراك الاجتماعي وتتطور القرية فيحدثك الكتاب عن بعض التقاليد المعاشة في كل أنحاء السودان، في مجتمع الحبوبات والأمهات.. جلسات التفلي لنظافة شعر النساء، وصوامع الغلال الشعبية في زمن غير بعيد، وإبداع الخيال الشعبي في مهرجانات الفرح والمناسبات ودهشة أبناء القرى والريف من وهج المدينة وسلوكياتها، وينتقل الروائي المجيد إلى مواقف لا تشعر بالحرج، وأنت تطالع أحداثها فيحدثك عن عزم أهل القرية بناء أنداية في قريتهم بالعون الذاتي، وجمع التبرعات حتى لا يتعرض رجال القرية لمخاطر الطريق ليلاً، وهم يجوبون الاندايات البعيدة، ويروي محمد حسن أن أحد رجال القرية قال أنه تعود المريسة داخل القرية وهو بعيد عن المخاطر، لكن عمل الخير لا يرفض، وقدم مساهمة لمشروع القرية مصوباً بذلك نحو قيم الخلق والشهامة والتكافل والمشاركة في عرف أهل الريف.. مرة أخرى تأخذك الرواية إلى المعاصي التي تكمل الفروسية والجَلَدْ، أن أحد شخوص الرواية تعرض لإشاعة بأنه قد توقف عن احتساء المريسة، فذهب غاضباً إلى من يتهمهم بمصدر تلك الفرية وقال لهم أنه علم أن بعضاً منهم أتهمه بأنه ترك شراب المريسة ثم أردف في غضب (البهتني الله يبهته). الرواية تلهب في مخيلة القارئ نوازع الخير والمحبة من خلال الخطايا وتطلق العنان للبحث عن العلاقة بين التحرر والانقياد للفطرة، وبين التراضي والانصياع للعقائد، ومن خارج النص الروائي لمحمد حسن البشير، يتناقل أهل السودان كيف استعان إمام المسجد الكبير بأم درمان برواد الإنداية في حي العرب لإحضار جثة قبطي كتم إسلامه لدفنه بمقابر المسلمين، بعد أن فشل في إقناع المصلين وسلطات الشرطة بإحضار الجثمان من ذويه، وكيف أن رواد الإنداية قاموا بأداء المهمة وإحضار الجثمان حتى باب السور الخارجي للمسجد، وذلك وفاءً لإخوة الإسلام وفي سبيل الله. كتاب(تلميذ من المدرسة)يستحق بجدارة التنقيب في اللغة التي استخدمها الكاتب، وفي الصور التي رسمها للأحداث نثراً وكلمات وفي مقاصد المواقف المتعددة لشخوص الرواية في الزمان والمكان. بقى أن أقول لك عزيزي القارئ وأنا في هذه الإستراحة هذا الأسبوع، إن إحساسي وأنا أقرأ الرواية إحساس بأني أتناول وجبة من الشعيرية المقلية بالسمن البلدي والمخلوط بالذبيب الأبيض. }}