طالعت في (العروسة) آخر لحظة الصادرة صباح الثلاثاء الموافق 9/3/2010م العدد (1287) خبراً , إن واشنطن تخفف العقوبات في مجال خدمات الإنترنت لثلاث دول ومن بينهما السودان ، فأستوقفني كثيراً وكانت المعلومات الواردة فيه تدعو للتوقف والقراءة بتأني .. فقد جاء أن وزارة الخزانة الأمريكية قالت أن هذه الخطوة ستسمح بتصدير الخدمات المرتبطة بإستخدام الإنترنت والتراسل الفورى لأن الأحداث التي وقعت في إيران أظهرت أن إتصالات الإنترنت الإلكترونية هي أدوات قوية. وما من شك أن هذه الخطوة تعد رسالة موجهة لتحقيق عدد من الأهداف وفي عدة إتجاهات وابعاد... وليس من المستبعد أن تكون رسالة تحويل أنظار الناس ، وجعلهم ينسون مؤامراتها، أو وسيلة للبعث بإستمرار عن الذرائع التي تتهم بها الزعماء ، ياسادتي الولاياتالمتحدة دائماً تشجع الإتجاهات الإنفصالية والإضطرابات والقلاقل ، وهذا يعكس ما يمكن أن يُسمى بإستراتيجية التوتر. هناك نقاط عديدة تدعو للتوقف عندها في هذه الخطوة التي كان مصدرها جهات رسمية أمريكية وهذا في حد ذاته جزء من مفهوم الرسالة ، وإذا نظرنا إلى الخطوة والخبر بإعتبار أن كلأ منهما له دوره في توصيل الرسالة المرادة ، ولعلى لا أخالف الواقع إذا ما قلت أن الخدمات التي قدمها موقعا ال(فيس بوك) و(تويتر) في عكس الأحداث التي صاحبت العملية الإنتخابية الإيرانية، تسعى واشنطن لإستغلال هذه الإمكانات لإقتحام السودان من الداخل، وذلك من خلال السماح لشركات التقنية بتصدير خدماتها عبر الشبكة لتكرار السيناريو الإيرانى في السودان أثناء وبعد الإنتخابات، حيث إن الخدمات الجديدة ستزيد صعوبة تقييد الحكومة لتدفق المعلومات إلى داخل المجتمع ، وتسهيل إتصال مواطنيها بالعالم الخارجي. ودعنا نرجع إلى الوراء ، ففى نوفمبر من عام 1997 فرضت الولاياتالمتحدة منفردة عقوبات إقتصادية وظلت هذه العقوبات تتجدد سنوياً ، وفي أكتوبر 2002 وقع الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش على قانون يفرض عقوبات على السودان إذالم يتوصل إلى إتفاق سلام مع حركة التمرد آنذاك في غضون أشهر، وحتى «الجديد البيقولوا ليهو شديد ما قصر في التجديد». الولاياتالمتحدةالأمريكية عادة تتدخل بشكل مباشر في القضايا والأمور الداخلية للدول الأخرى ، بل يمكنها أن تستخدم أساليب سرية في بعض الحالات الخاصة أي شخص مهما كانت معرفته بالتاريخ هامشية ، فإنه يعرف هذه التصرفات، ولا زالت تظهر بشكل متزايد وأصبح ما يسمى بمقاومة الإرهاب الدولى حجر الزاوية في سياسة الولاياتالمتحدة الخارجية. الولاياتالمتحدةالأمريكية لا تتورع عن القيام بأية عمل يمكن أن يحقق أهدافها التي تسعى إليها، وإذا رأت أية محاولة تقوم بها أية دولة لتحرير نفسها من أوضاع الإستعمار الجديد ، فتعتبر ذلك بمثابة تهديد ل(المصالح الحيوية)لها، فهل يمكن للمرء أن يتخيل إرهاباً أسوأ من هذا الإرهاب؟!. الولاياتالمتحدة بإعتبارها الحكم الوحيد هي التي تقرر فيما إذا خرق حلفاؤها القواعد والحدود المرسومة لهم ، فإن ذلك يعني أنها سوف تدافع عن حقوقها لإجراء (تعديلات في طبيعة ذلك النظام) في الدول المتحالفة معها ، وتعمل من أجل أقناع الرأى العام وكذلك الدول الصديقة بحقيقة الخطر المحدق من قبل العصاة ، وضرورة القيام بعمل حاسم ومن أجل هذا الهدف تعمل على إختراق حركات العصيان والتمرد عن طريق زرع عملاء لها وفق مهمات خاصة. الولاياتالمتحدةالأمريكية تعمل على ضرب مصالح حلفائها الإقتصادية عن طريق إجبارهم على بيع النفط إلى الشركات النفطية الإحتكارية وبالأسعار التي تحددها هذه الإحتكارات والإستفادة من أرباحها وعائداتها في الصناعات الحربية بما فيها الإلكترونيات والصواريخ وغيرها ، ومن أجل فرض سيطرتها على القضايا والمشاكل الدولية عبر البيت الأبيض. وبالهيمنة والانفراد بالقوة تجاوزت أمريكا في هذا المجال حدود العقل والشراكة الإستراتيجية إلي محاولة فرض أجندة الإصلاح السياسي علي السودان، وهي تعلم أن جهود السودان الإصلاحية تطول بمختلف جوانبه الإقتصادية والسياسية وفق حسابات وأولويات محلية تحافظ علي أمن المجتمع وسلامته، ولكنها تريد إصلاحاً سياسياً يمضي وفق ما تريد دون أدني أكتراث لإرادة السودانيين. لذلك لم تجد الإدارة الأمريكية سوى فرض العقوبات علي السودان وإرسال رسائل للضغط، سوي تقارير تصدرها سنوياً عن الأوضاع في العالم تارة بإسم حقوق الإنسان وتارة بإسم الديمقراطية وأخري بإسم الحريات الدينية ، وكانت تلك التقارير أقل من أن تحظي بأدني إحترام لما حوته من تناقضات وما كشفت عنه من فقر معرفي بأوضاع المنطقة.. وكذلك وسائل أخرى تستخدمها هي المعونة. السودان لا ينكر ما قدمته الولاياتالمتحدة من معونات أسهمت في دعم برامجه التنموية طوال السنوات الماضيةولكن حين تتحول المعونة من رافد تنموي إلي وسائل ضغط سياسي فالسودان لن يرهن قراره السياسي داخلياً وخارجياً بأي حجم من المساعدات وهو موقف غير قابل للتغيير تحت أي ظرف ، ولا نتوقع أن تتوقف كل الماكينات التي تستخدمها الأوساط الأمريكية الحاكمة والتي تلجأ إليها بإستمرار من أجل إسقاط الأنظمة الغير مرغوب فيها . نأمل أن تقرأ أمريكا الأوضاع بصورة مختلفة وعليها أن تدرك أن حقيقة العلاقة مع السودان ولا يمكن اختزالها في قضية المعونات أو خلافه فهناك العشرات من المصالح المشتركة السياسية والإقتصادية والأمنية التي تتجاوز كثيراً ماتقدمه الولاياتالمتحدة من دعم للسودان وعليها أن تضع قضية المعونة ووهمتها الأخيرة في سياقها الإستراتيجي الصحيح وأن تبتعد بها عن أي شروط أو أي خلافات قد تطرأ بشأن قضايا إقليمية أو داخلية. وما نرجوه هو إعادة بناء العلاقات السودانية الأمريكية علي أسس مختلفة تدعم قدرة الدولتين علي تجاوز أي خلافات قد تنشأ وهو أمر يتطلب من الولاياتالمتحدة باعتبارها الدولة الأقوي في العالم أن تتفهم جيداً المصالح الإقليمية السودانية وأولوياتهاوأن تدعم تحركاتها في المنطقة إذا ارتضت بناء مشاركة إستراتيجية مع السودان. ولا نتوقع أن تصبح العلاقات - السودانية الأمريكية - قوية إلي حد التطابق ولكننا نتطلع إلي أن تصل إلي حدود الفهم المتبادل بما يحقق المصالح بين البلدين وبما يحمي تلك العلاقات من التوتر حينما ينشأ خلاف في الرؤي والسياسات فالسودان لم يكن مصدراً لتهديد المصالح الأمريكيةوكذلك نأمل ألا تصبح السياسات الأمريكية مصدراً يهدد مصالح السودانيين ووطنهم وهنا يمكن لهذه العلاقات أن تصبح مصدر قوة لتحقيق مصالح البلدين وتحقيق السلام والإستقرار في المنطقة بأسرها..(قايلك تبت من مخاوات القماري .. ومن شراب موية المطر .. تاريك كامن لي .. تاريك لابد لي .. بشيتاً كُتر).