من تابع المؤتمر الصحفي الذي عقدته المفوضية القومية للانتخابات عشية يوم الاقتراع، لا بد أن يكون قد لاحظ اللهجة الواثقة التي تحدث بها أعضاء المفوضية «المحترمة» عن الاستعدادات والترتيبات التنظيمية واللوجستية والفنية التي أنجزتها المفوضية، ومن بين أولئك المتحدثين «الواثقين» لا بد أن يكون قد لفتت نظره الطريقة الاستعراضية التي قدم بها د. مختار الأصم الفقرة الخاصة به حول مقومات النزاهة والضمانات «الما بتخرًّش ميًّه» كما يقول المصريون، فيرفع مرة ختماً للشمع الأحمر يقول إنه يحمل رقماً مسلسلاً «لا يوجد مثيل أو شبيه له أو تكرار في كل العالم» ثم يرفع ورقة الاقتراع ويؤكد على دقة طباعتها.. وتحدث غيره عن أن كل المراكز الانتخابية جاهزة الآن للاقتراع وأن الصناديق والبطاقات قد وصلت ورُتبت وأن كل عمليات التأمين المطلوبة لإجراء انتخابات حرة ونزيهة وشفافة قد أُنجزت، ولم يعد أمام الناخبين إلا أن يتوكلوا على الله صباح غدٍ (الأحد 11 أبريل) ويتوجهو إلى مراكز الاقتراع للإدلاء بأصواتهم.. و«يا دار ما دخلك شرْ»!! لم يكن مستغرباً أو مدهشاً بالنسبة لي أن يكون أول من اكتشف خطل «الإدعاءات» التي أطلقها مسؤولو المفوضية القومية في مؤتمرهم الصحفي ذاك، هم المرشحون من الزملاء الصحافيين، الأساتذة محجوب عروة وعثمان ميرغني والهندي عز الدين، فهولاء بحكم تدريبهم المهني واستعدادهم الفطري ينطوون على عقلية نافذة -critical mind- وبالتالي يمكنهم ملاحظة الأخطاء والهفوات و«الجلطات» بصورة أسرع من غيرهم، وللأسباب ذاتها -التدريب والاستعداد الفطري- فهم أيضاً يسبقون الجميع في الإعلان عن تلك الملاحظات، ما يترتب عليه بالتداعي إعلان المواقف تجاه ما جرى بالجرأة المعهودة في سلوك الصحافيين، فلم يكن بالتالي انسحابهم والتعبير عن إحباطهم وأحزانهم مستغرباً ولا مدهشاً. رصدت بالأمس ما كتبه الزملاء المرشحون المنسحبون الثلاث، وللمصادفة أن ثلاثتهم جمعني معهم العمل المباشر في ثلاث صحف هي السوداني وآخر لحظة وسابقاً «أخبار العرب» الأماراتية كما في حالة عثمان، وأن ثلاثتهم ربطت بيني وبينهم علاقات صداقة ممتدة. كلماتهم في يوم الانسحاب عبرت بشكل واضح عن حالة الحزن والإحباط التي انتابتهم فور اكتشافهم الحقيقة، بل ذهب بعضهم إلى درجة الاعتراف الصريح والشجاع بأنهم «اتخموا» في تقديرهم لمصداقية وكفاءة المفوضية القومية وإمكانية قيام انتخابات حرة ونزيهة. وأبلغ هذه الاعترافات الحزينة هو عنوان صديقي وزميلي محجوب عروة الذي جاء من كلمتين «أنا غلطان»، الذي يمكن بقليل من التحوير والإضافة أن يصبح جزء من قصيدة إسماعيل حسن التي غناها محمد وردي في الخمسينيات ويوجه للحبيبة (المفوضية)، «أنا استاهل.. الوضعتك في مكان ما مكانك»، رحم الله إسماعيل وأطال عمر وردي. ومن ثم استذكر محجوب دفاعه عن المفوضية القومية وتشجيعه للناس على الدخول في الانتخابات ونقده للأحزاب المقاطعة، وأذكر شخصياً أنه قبل أن تبدأ الانتخابات بزمان طويل كيف كنا نختلف -أنا ومحجوب- عندما يتطرق الأمر في اجتماعات مجلس تحرير «السوداني» حول تقييمه وتفاؤله وإصراره على القول بأن «انتخابات سيئة خير من لا انتخابات» وكان يرددها بالإنجليزية Bad elections is better than no elec tions، بينما كنت أنا أبدي تشككاً حول أن من أتى إلى السلطة عبر القوة والانقلاب يمكن أن يغادرها طوعاً واختياراً عبر صناديق الاقتراع، عملاً بالحكمة السودانية التي ينطوي عليها المثل السوداني البليغ «الرضاعة ساهلة.. صعبة الفطامة». ومن اعترافات صديقي محجوب هو أن ما حدث بالأمس «لم يكن من قبيل الأخطاء المطبعية أو سقوط الأسماء سهواً أو أخطاء في الفرز يمكن تداركها» بل كان بمثابة «فوضى وفضيحة بجلاجل.. ومسخاً مشوهاً لأي انتخابات» وهذا ما شهده يقع في دائرته، وأن ما حدث هو «تجاوزات خطيرة.. أما أن يكون عدم كفاءة أو عملية مقصودة» ولا حل يراه «إلا بإلغاء هذه الانتخابات وإعداد كشوفات جديدة وأوراق انتخابات جديدة» وحتى تظل المفوضية محل احترامه وتقديره، فعلى الأقل إيقاف العملية الانتخابية في أي مركز أو ولاية حدثت فيها تجاوزات وإجراء تحقيق في هذه التجاوزات.. فهل يتوقع أن يستجاب لطلبه والمفوضية تقول إن تلك «هفوات» تمت معالجتها..!أما صديقي عثمان ميرغني -صاحب «التيار»- فقد كان عنوان عموده هو «حتى لا تسقط الشرعية»، وحلف بالله العظيم بأنه يكتب كلماته تلك «بكل الحزن والإحباط» وحكى كيف أنه ذهب منذ الصباح الباكر إلى الدائرة التي ترشح فيها -الدائرة 12 الثورة الشرقية- لكنه فوجئ بوضع غريب للغاية.. حين وجد أن اسمه وأسماء المرشحين معه اختفت من قائمة المرشحين، والبطاقة الانتخابية تبدلت مع بطاقة انتخابية لدائرة أخرى، وتكرر الأمر في أكثر من مركز للتصويت. وروى كيف أن زميله الهندي عز الدين من الدائرة الانتخابية المجاورة اتصل به وحكى له نفس «الحكاية»، وكذلك تلقى اتصالاً آخر من محجوب عروة يحدثه عن نفس المشكلة، وأضاف أنه صادف ناخبين كثيرين يحملون بين أيديهم البطاقات التي تثبت تسجيلهم لكن أسماءهم سقطت من الكشوفات. ورأى عثمان في ختام مقاله أن الأجدر هو إلغاء نتيجة الانتخابات على الأقل في الدوائر التي تعرضت للفوضى وتساءل عثمان -مغتاظاً- «ما هو المطلوب من الانتخابات.. أن يفوز جميع مرشحي حزب المؤتمر الوطني والأحزاب المتحالفة معه التي أفرغ لها بعض الدوائر؟» وأجاب: حسناً.. هل كان ذلك يحتاج كل ما جرى؟!أما صديقنا الهندي عز الدين، فقد خصص زاويته غير الراتبة «تحية واحتراماً» ليوم انسحابه وصب جام غضبه من خلال عنوان أحمر قصير يقول: «هنيئاً لكم بهذا الرماد»، وأردفه بآخر يقول: «أكبر فضيحة انتخابية: قصة تبديل بطاقات الاقتراع في الدائرة (13)!!»، وأكد أنه كان «مكتسحاً للانتخابات» وأن مندوبته في الحارة (24) أقسمت أمام الصحافيين بأن (20) حافلة تابعة لمرشح المؤتمر الوطني حملت الناخبين فصوتوا للمرشح المستقل الهندي عز الدين، وأن ما لا يعلمه المؤتمر الوطني أن زعيم حزب الأمة القومية الصادق المهدي وجه عبر رسائل سرية كافة قواعد الأنصار بالدائرة (13) بالتصويت له وإسقاط المرشح المنسلخ من الحزب الكبير عبد الله مسار، وأن أنصار السنة صوتوا له وأن «الصادقون» في المؤتمر الوطني والحركة الإسلامية صوتوا له كذلك، وأن من حاربه هم الانتهازيون والمنافقون. ثم فتح الهندي نيرانه على المفوضية التي قال إنها «سقطت في امتحان الأمانة، وهي تحشد المراكز بمن أسمتهم مراقبين محليين وهم أعضاء في حملة مرشحين يحاصرون صناديق الاقتراع من الداخل» وتساءل: كيف نأمن على أصوات ناخبينا في ظل وجود هذه الجمهرة المريبة؟! لسنا في حاجة لمزيد على ما قاله الزملاء المحبطون المحزونون، لكننا نذكر فقط أننا منذ وقت باكر تابعنا عمل المفوضية القومية للانتخابات، ونبهنا للأخطاء والخروقات التي صاحبت الإعداد لهذه الانتخابات عبر العديد من «الإضاءات»، خصوصاً طباعة البطاقات الانتخابية في مطابع العملة السودانية، وإعطاء المفوضية نفسها -بحكم اللوائح- طرد المندوبين ووكلاء الأحزاب والمرشحين من المراكز متى رأت ذلك «معقولاً» دون الإشارة في تلك اللوائح «قواعد السلوك الانتخابي» لضرورة استبدال المندوبين والوكلاء المطرودين بغيرهم، وغير ذلك كثير حتى جاء الوقت الذي «كضبت الميّة فيه الغطاس».. فلا حول ولا قوة إلا بالله!