رغم تجاهل المفوضية القومية للانتخابات ورغم تجاهل المتحدثون باسم الأحزاب والمؤسسات الرسمية، في تقييمهم لأداء القطاعات المختلفة في عملية الإقتراع التي جرت في أبريل الجاري، ورغم كل ذلك يظل دور المنظمات الطوعية الوطنية ومنظمات المجتمع المدني السوداني أبرز الأدوار الإيجابية، وأكثرها تأثيراً في إخراج العملية الانتخابية بكل تعقيداتها، في صورتها السليمة الحضارية، ولا يقدح في هذا الدور العظيم إفتتان البعض، وامتنانهم للمنظمات الأجنبية والمؤسسات الأممية، وكأنها الوحيدة الناجحة، والتي أدت دوراً في الرقابة، تحقيقاً للحكمة السودانية «ولد البيت محقور»أي «زامر الحي لا يطرب». بعد اكتمال أكثر المراحل حساسية في العملية الإنتخابية، وهي مرحلة التصويت وفرز الأصوات، فإن ملحمة الإصلاح في أوساط المنظمات الوطنية سوف تتواصل، وهي على مستوى التحديات القادمة، في تحقيق الاستقرار الإجتماعي، وتزكية قيم الحكم الراشد، وإعلاء فرائض الحوار، والتعايش والقبول بالآخر. إن التحدي الذي يواجه بلادنا بعد العملية الانتخابية في إنفاذ استحقاقات إتفاق السلام بنيفاشا، يتمثل في الاستفتاء حول الوحدة بين الشمال والجنوب، وهي مرحلة ترتبط بالكيان الوطني السياسي والجغرافي، وموروث العلاقات الإجتماعية التي أفرزت الوطن الواحد، وبكل كفاح ونضال الأجيال السابقة في مواجهة دعاوى التمزق والإنفصال، والتوجه عكس تيار التمدين والفكر الإنساني، والموروث الحضاري للبشر. إزاء التحدي القادم في صيانة وحدة السودان، فإن دوراً عظيماً يقع على عاتق المنظمات الوطنية، والتي تمثل ضمير المجتمع السوداني، والتي قامت في الأساس على مبادئ الإنسانية، التي جاءت بها التعاليم الدينية، والإجتماعية، عبر العصور، وتتمثل هذه المبادئ في عدد من المحاور، أبرزها أن عنصر الإنسانية وتكريمها وتحقيق مصلحة الإنسان في الدنيا والآخرة، هو الهدف الأسمى، وفي هذا الإتجاه فإن قيم العمل الطوعي تتوجه نحو إزالة الفوارق بين المجتمعات، في اللون، أو الدين، أو الثقافة، وهو ما يرمز اليه بمفهوم التميز، والتي أذابت الفوارق العنصرية في أكبر دولة في العالم، وتحولت من دولة تمارس العنصرية العرقية، الي دولة يقف على سدة الحكم فيها، رئيس من أصول كينية يتمتع بحق المواطنة لا غير. وفق مجمل تلك العناصر التي تتميز بها المنظمات الإنسانية، فإن موقفها من وحدة الوطن لن يكون محايداً، هذا الموقف يتدرج من أصغر المجتمعات في القرى والأرياف، وبين المجموعات القبلية في مناطق السودان، وحتى على مستوى القطر وصولاً الى العولمة في أهداف الألفية التي نادت بها أمم الأرض. لقد لعبت المنظمات الوطنية المدنية والطوعية دوراً في مجال العون الإنساني، منذ تفجر حرب الجنوب والشمال، واستطاعت هذه المنظمات أن تكون العمود الفقري لملحمة العودة في قرى السلام بجنوب السودان، وإيواء ما لا يقل عن الأربعة ملايين مواطن في هذه القرى، ولعبت دوراً إنسانياً إغاثياً ومدنياً، في التعايش على مستوى مدن السودان في الشمال وبولاية الخرطوم، من خلال رعايتها للنازحين المواطنين، الذين تمركزوا في أطراف المدن الكبرى، والذين أثروا وتأثروا بالمكونات السكانية في هذه المدن، التي اكتسبت ملامح التمازج الإثني، والثقافي، والديني التي نعايشها اليوم.إعتماداً على الموروث والذخيرة التي اكتسبتها المنظمات الوطنية، فإن المسئولية الدينية والوطنية والاجتماعية، تحتم عليها القيام بدور ريادي متقدم وفاعل في مواجهة دعاوي الانفصال، وتعضيد روابط الوحدة بين أجزاء السودان جنوباً وغرباً وشرقاً، تأكيداً لحق المواطن بالتمتع بحقوقه القانونية، والدستورية في أي شبر من أرض السودان. أمامنا تجربتان داويتان قرعتا ناقوس الانتباهة لاستنهاض منظمات المجتمع المدني السوداني، لمواجهة المرحلة القادمة، وهما تجربة شراكة المنظمات الوطنية للسلام والوحدة (شموس)، والتي أعلنت عن برنامجها برعاية المجلس السوداني للمنظمات الطوعية (إسكوفا) في ديسمبر العام الماضي، وجمعت في شراكتها من المنظمات التي تنتمي لكل السودان، وأطلقت نداء السلام والوحدة والتنمية. والتجربة الثانية تجربة المركز العالمي للدراسات الإفريقية، الذي كون للوحدة الجاذبة منتدىً قومياً باسم المنتدى المحدوي، اجتمع فيه أهل الفكر والثقافة، ومنظمات المجتمع المدني من كل ولايات السودان، للتواصل في تحقيق الوحدة الطوعية والاختيارية، والإبقاء على السودان الموحد، وجعل عناصر التباين مدعاة للتنمية والقوة. تلك التجربتان آن الأوان للتقدم فيها من خلال برنامج واسع بجمع كل المنظمات والشراكات الوطنية، لتحقيق أهداف السلام، والتعايش، والوحدة، ليس للجنوب والشمال فقط، إنما لكل أجزاء السودان الأخرى، وأن يشمل البرنامج إزالة أسباب دعاوي الانفصال، وقيادة عجلة الوعي والتنمية، وإزالة المظالم بين مجتمعات السودان، وإبراز إيجابيات السلام والوحدة، واستدراك الحس الوطني، من نضال وكفاح أهل السودان، في مواجهة التحديات التي مرت بها عبر العصور الماضية، وإبانة مخاطر التمزق والاحتراب، التي لا تجلب لبلادنا وللإنسان سوى الخراب والدمار. نعود لنقول أن تجاوز المنظمات الوطنية للتجربة العملية الانتخابية بنجاح، تمثل في توعية الناخبين بحقوقهم وواجباتهم، وفي نشر ثقافة السلام، واحترام الرأي الآخر، ومواقف ممثلي هذه المنظمات الحيادية، واتسامها بالشفافية في أيام الإقتراع الخمسة، وأثناء فرز الأصوات كل هذا يؤهلها لمواجهة التحدي وتحمل المسئولية.