رحم الله الموسيقار الكبير إسماعيل عبدالمعين وغفر له وأدخله فسيح جنّاته، فقد كان أحد بناة الوجدان الوطني الموحِّد للأمة وقامت مكونات حسّه الفني على تنوع حقيقي في جيناته الوراثية المركبة التي اجتمع فيها الوسط بالغرب وبالجنوب. وكان - رحمه الله - من أقوى الناس صلة بالسيد الوالد الأستاذ محمود أبو العزائم - رحمه الله - وهو ما مكنني من أن تكون لي به صلة قوية، وأخذت لسنوات عديدة أسمع منه وهو يحكي وينقل تجاربه الفنية والموسيقية بإسهاب وتفصيل محببين لسامعه الذي لا يمل بسبب ما يقدمه لك خلال الحكي من نماذج. في أوائل ثمانينات القرن الماضي كان يجمعنا نحن نفر ممن يشتغلون بالصحافة والثقافة والفنون والشعر والموسيقى، صالون أدبي أسبوعي بدأ باسم منتدى الحروف وتحول لاحقاً بعد (انشقاق) هادئ إلى منتديَيْن، أحدهما احتفظ بالاسم القديم والثاني حمل اسم صالون أم درمان الأدبي، وكان من أركانه الأساتذة الشاعر المرحوم حسن الزبير والشاعر والمسرحي الكبير الراحل خالد أبو الروس وعبدالرحمن مكاوي وعبدالوهاب هلاوي وزين العابدين أحمد محمد وعوض إبراهيم عوض وأبو قرون عبدالله أبو قرون وعبدالله البعيو ومحمد ميرغني وسيف الجامعة وحسين خوجلي وفتحي المك وعبدالقادر جميل ونزار غانم وغيرهم. وكنا نجتمع أسبوعياً في منزل أحد أعضاء المنتدى نناقش القضايا العامة ونناقش ونستمع للجديد من الأشعار والأغنيات، وكنتُ حريصاً على أن نضم إلينا الموسيقار الكبير إسماعيل عبد المعين، لكنني فشلت لأنه لم يكن يرغب في مغادرة منزله في الخرطوم بحري ولا يتجاوز محيط ذلك المنزل في الفترة الصباحية، إذ يجلس تحت شجرة نيم اشتهرت بأنه أحد روادها مع الشاعر المعروف «بُر» وهو من أصدقائه المقربين.. ومع ذلك كنت أحرص على أن أزوره بانتظام وأحرص أكثر على أن يصحبني في تلك الزيارات أصدقائي وأعضاء المنتدى وعلى رأسهم العميد. أ.ح - وقتها - أبو قرون عبد الله أبو قرون وعوض إبراهيم عوض وزين العابدين أحمد محمد وعبد الوهاب هلاوي وغيرهم ليكونوا شهوداً على إفادات الموسيقار الكبير حول الغناء ومسيرته الفنية.. وكنا نستمع إلى دوره في نقل أغنيات «التم تم» من تومات كوستي «أم بشاير» و«أم مساير» إلى أم درمان والذي يعتبره كثير من النقاد لبنة الغناء السوداني الحديث الأولى في المرحلة التي تلت أغنيات الحقيبة أو جاءت في أذيالها المزركشة. الموسيقار الراحل إسماعيل عبد المعين، لم يكن بعيداً عن قضايا وطنه وشعبه فقد انفعل بالدعوة لمؤتمر الخريجين، وقام في عام 1937م بتلحين (صه يا كنار) للشاعر النسر الصاغ محمود أبو بكر لتكون أول أناشيد المؤتمر وثاني أغنية سودانية لها مقدمة موسيقية بعد أغنية «عازة في هواك» للعبقري خليل فرح، وعندما نشأ موتمر الخريجين في عام 1938م كانت «صه يا كنار» قد سبقته للوجود، وفي عام 1941م قام عبد المعين بتلحين ثاني أناشيد المؤتمر (للعلا) للشاعر والسياسي خضر حمد وقام اللحن البديع ليكون أول عمل فني سوداني يتم تلحينة على إيقاع المارش.. ثم غادر بعدها للقاهرة وعاد منها بالنشيد الثالث (صرخة روت دمي) للشاعر محي الدين صابر الذي كان يدرس وقتها في جامعة فؤاد الأول. ما بين أول أناشيد المؤتمر إلى ثالثها مجموعة كبيرة من الأغنيات والألحان الجميلة بدءاً من (يا حنوني) و(إيه يا مولاي) و(يا حلاوة المقرن يوم الأحد بالليل) و(جبال التاكا) وغيرها. ليت الإذاعة السودانية وهي تحتفل بعيدها السبعين، ليتها تفرد مساحات زمنية لإعادة إنتاج أغنيات عبد المعين، ونشكر لها الآن أنها تعيد بث ما سجله معه الأستاذ محمود أبو العزائم - رحمهما الله - في برنامج «كتاب الفن» عام 1975م عندما كان مديراً لإذاعة صوت الأمة السودانية.. حيث يتم البث الآن من إذاعة «ذاكرة الأمة» على الموجة (إف إم 98).. وكل عام وشعبنا بخير. * حاشية:- «جابوا لي سرو.. سرو غامض.. ما قدرت أحلو» هي واحدة من أغنيات عبد المعين التي تستوقف سامعها لغرابة الكلمات، مثلها مثل «يا أم قرقدي، جبدي كدي.. كان يبقى زي حقي دي» ومثل «قمر الضريح حرام صيدو» ومثل «لما جيتنا يا سيدي لما جيتنا - لما رجعت لينا من حقك علينا نسامحك لما جيتنا» ومثل.. ومثل.. ومثل.