الناس غاطسون في موبايلاتهم ، الكل في مركبات المواصلات العامة، وفي أماكن الانتظار المختلفة، وتحت ظل الأشجار، أو حول (ست الشاي) .. كلهم يبحلقون في شاشاتهم الصغيرة، أو ينفصمون في عالم تبثه السماعات من الموبايل إلى آذانهم !! أدس أنفي أحيانا، وأسأل البعض عما يغطسون فيه من خلال الشاشة ! الفتيات مثلا، يبحلقن في شاشة الموبايل حين تكون به صور كثيرة، أو ألعاب مسلية، أما إذا كانت الفتاة من النوع الغارق في السماعات، فهذا يعني أنها سابحة في بحور الغناء والطرب، وهو غناء ليس محصورا في انتاجنا المحلي، بل يمتد لكل غناء العرب، وربما الغناء الغربي أيضا ! والشباب يغطس في الموبايل تقليبا في الصور، واستعراضا للرسائل السابقة، وتبادلا لرسائل جديدة، وممارسة للتواصل المتاح عبر البلوتوث مع المحيطين .. والمحيطات !! طبعا البعض يشاهد أفلاما قصيرة أو مطولة، والبعض يدخل النت والدردشة من خلال الموبايل، وآخرون يغطسون لمراجعة القوائم، وشطب الأسماء القديمة التي تلاشت أرقامها، وإضافة الأسماء الجديدة الواردة من خلال رسالة أو اتصال. الكبار أقل انغماسا في الموبايل، والسبب ربما يعود لانفتاحهم الذي يجعلهم ميالين للأنس مع المحيطين، وربما يكون السبب أن بعضهم يميل للبحلقة فيما حوله، حيث تتملكهم الدهشة من كل صغيرة وكبيرة، كما لا ننسى أن الموبايل يحتاج نظرا سليما، فلا يضطر الإنسان لخلع النظارة وارتدائها كلما لاحت الضرورة لاستعمال هذه التقنية . أحد الأصدقاء كان إلى وقت قريب نافرا من الموبايل، لا يلجأ إليه إلا عند الضرورة، وكل مهاراته في التعامل معه هي الاتصال بالآخرين، واستقبال المكالمات حين يرن هاتفه ! لكنه أخيرا أصيب بالفصام إياه، وصار يقضي سحابة يومه مبحلقا في الشاشة الصغيرة، وأصابعه تتقافز على الأزرار، ولم أعرف السبب، لكنني حين تجرأت على سؤاله كانت المفاجأة، فقد قال إنه يتمرن على مواقع الأحرف، لأنه يريد تعلم كتابة الرسائل، وإتقان هذه المهارة، قبل فوات الأوان ! الفصام الذي صنعه الموبايل واضح، والدنيا كلها أصابها الانعزال. طبعا السبب ليس في هذه الآلة الصغيرة، ولا في شركات الاتصالات .. السبب في غربة عميقة بدأت تتغلغل في نفوس الناس، غربة تكبر داخلهم رغم وجودهم بين أهليهم وذويهم، غربة تخلخلهم وتهزهم وتزلزلهم، حتى لو خدعتنا سمات الهدوء الظاهري الذي يبدو عليهم. الحياة تتقدم، لكن الإنسان ينكفئ على ذاته، ينغمس في عوالمه الصامتة، يمارس الهروب من إحباطاته، ويتشرنق بالبحلقة والشرود .. عسى أن توفر له الشاشة الصغيرة .. ما عجزت دروب الحياة عن توفيره وبلوغه.