(هبوبك يا الله).. هكذا كنت أردد، مستمتعا بانسيابية شارع على عبد اللطيف، عقب رحيل السفارة الأمريكية منه! شارع على عبد اللطيف، بالمناسبة، هو شارع جريدة الصحافة، حين كانت الساحة في أيام النميري محصورة في صحيفتين : الصحافة والأيام. وهو الشارع الذي كانت تقع عليه جامعة القاهرة فرع الخرطوم، وبالقرب منها مدرسة جمال عبد الناصر، ودار اتحاد طلاب جامعة القاهرة الفرع، وعلى بعد مسافة قصيرة الكلية القبطية للبنات بحسانها المتفوقات .. جمالا وعلما. يا له من شارع جميل، ويا لتزاحم الذكريات فيه وعنه، ففي أيام الشباب الريانة .. كان لنا فيه صولات وجولات، وعشنا فيه من التفاصيل العبقة .. ما سيبقى الفؤاد حفيا به .. ما بقي لنا من عمر في الدنيا ! قادتني قدماي لشارع فرعي يصب في (علي عبد اللطيف) .. يا للمفاجأة ! الشارع اسمه (21 أكتوبر) .. سبحان الله، كنت أظن أن لا أحد يعرف الآن معنى (21 أكتوبر)، بل أثق أن ابني وابنتي والكثير الكثير من الشباب الذي يملأ الساحة حيوية الآن، كلهم لا يعرفون شيئا عن أكتوبر وعن أيامه الزاهرة ! في تقاطع على عبد اللطيف، مع 21 أكتوبر، وجدت مجموعة من المتحلقين حول (ست شاي) . ما أضعفك يا شاطرابي أمام الشاي !! بسرعة البرق اتجهت صوب المكان، وبنظرة سريعة اخترت بنبرا وثيرا، في انتظار الشاي المنعنع اللذيذ! كانت هناك مفاجأة أخرى بانتظاري، فقد كانت بائعة الشاي الجميلة .. صماء ! اكتشفت الأمر حين أشارت بأصبعها للسانها، متسائلة إن كنت أريد سكر الشاي عاليا أم خفيفا، وعندما فهمت إشارتي .. تهللت أساريري وأساريرها بإشراقة الإدراك، حيث التواصل ممكن، وحيث نقل الأفكار متاح .. بقليل من الجهد، وقليل من الذكاء والفطنة ! المفاجأة الإضافية، عندما لاحظت أن المكان يلفه الهدوء من المثرثرين، وعندما التفت جانبا وجدت أن من يجلسان قربي يتحدثان بلغة الإشارة، فلما أجلت النظر في كل من حولي، وجدتهم جميعا في حوارات وونسة صامتة .. تدور كلها بلغة الإشارة التي يستعملها الصم !! إذن .. لقد كنت في جلسة مدهشة وسط رهط من الصم.. جميعهم استفادوا من حيوية المكان، ومن وجود (ست شاي) منتمية لمجموعتهم الجميلة، حيث يتآنسون، ويتبادلون البوح، ويستمتعون بتواصل ودي حميم، دون إحساس بضجيج المكان، أو بحركة المركبات التي تقطع الهدوء وتكدر أسماع الآخرين. شربت الشاي متمهلا، ونهضت مغادرا الموقع .. مودعا المكان باحتفائية وجدانية .. مرددا خلال عبوري مكان السفارة الراحلة : هبوبك يا الله !