قبل أيام وقف طالب بجامعة جوبا بقاعة الاجتماعات بمجلس الصداقة الشعبية العالمية، مخاطباً اللقاء التفاكري الذي نظمته دائرة السلام والشؤون السياسية بالمجلس لتنظيم ملحمة ثقافية وفنية للمساهمة في تعزيز التضامن والسلام الاجتماعي، بهدف تحقيق وحدة وجدانية بين أمناء الوطن.. وقف الشاب في شموخ مخاطباً قيادات مراكز بحوث السلام بالجامعات وقيادات منظمات المجتمع المدني قائلاً: لقد توافق أجدادنا في مؤتمر جوبا عام 1947م على وحدة السودان وترابه وإنسانه، فكيف يستقيم أن يدعو الآن بعض احفادهم وبعض الشماليين بالانفصال.. وركز اللقاء التفاكري على التوجه الذي يسود العالم الآن بالتوحد في كيانات كبيرة، وتمثل هذا في الوحدة الأوروبية رغم التباين بين شعوبها، وتمثل كذلك في الكيان الافريقي الذي تطور من منظمة إلى اتحاد، ويتجه الآن في مسيرة تطوره إلى خلق كيان للولايات الأفريقية. وبعد اللقاء التفاكري بيومين وقف الاسقف قبريال روريج أمين الدائرة الافريقية بمجلس الصداقة مخاطباً الإحتفال الذي نظمته الشعبة النسائية بالمجلس على شرفه، والأستاذ أحمد عبد الرحمن محمد بمناسبة فوزهما في الانتخابات، وسرد الاسقف قبريال تجربته في ملحمة الانتخابات، والتي جسدت معاني ومضامين لهذا الشعب، بانتخاب أول جنوبي ورجل دين مسيحي في دائرة بالشمال وبالعاصمة على وجه الخصوص، وأوضح أنه خاض معركة الانتخابات في الدائرة الجغرافية 34 ضمن ثلاثة عشر منافساً يمثلون كافة القوى السياسية، وفي دائرة يحتل المسلمون فيها 96% من سكانها بجانب 4% من الجنوبيين، وقال: إن حملته الانتخابية قادها نخبة من الإسلاميين بالدائرة، وقال هذا هو السودان وهؤلاء هم السودانيون واختتم بقوله إن السودان الذي ظل موحداً طيلة مائة وعشر عام لا يمكن أن ينفرط عقده. ونغمة الانفصال التي طفحت على الساحة الآن، لم تظهر طيلة الخمسين عاماً الماضية من مواطني الجنوب، رغم تفجر الحرب الأهلية في أغسطس عام 1955م قبل إعلان الاستقلال، بل تركزت قضيتهم في التهميش والظلم الاجتماعي.. وبالمقابل لم تبرز نغمة الانفصال في الشمال ماعدا الدعوة المعزولة التي أطلقها الصديق الأستاذ الصحفي محمد أحمد عجيب في الصحف قبل ثلاثين عاماً، ولم تجد الاستجابة، وغبرت في حينها، والذين يدعون للانفصال الآن ويسعون لتحقيقه، نحن نقدر موقفهم وكسبهم السياسي على ساحة العمل الوطني، ولكننا نخالفهم الآن، وهذا من حقنا لأننا لا نرضى لأنفسنا أن نعايش تمزق هذا الشعب العظيم المتفرد، والمرتكز على حضارة وإرث عريق، وأفرزت هذه الحضارة الضاربة في التاريخ إنساناً فريداً، تشرب بحضارة أفريقيا جغرافياً، وتشرب بالعروبة تراثاً وديناً ولغة، وكان نتاجه هذا الشعب المتفرد الذي يطمح أن يكون موحداً وقوياً. وبعد اتفاقية أديس أبابا عام 1972م سنحت لي الفرصة- بحكم مسوؤليتي عن الإعلام بالاتحاد الاشتراكي السوداني- أن أرافق المسؤولين في زيارات متعددة للجنوب، وتجولت مع السادة أبو القاسم محمد إبراهيم ودكتور محمد هاشم عوض والمهندس يحيى عبد المجيد وبدر الدين سليمان وغيرهم كل مناطق الجنوب، ويشهد الله أنني لم أشعر باي غبن يحمله المواطن الجنوبي لأخيه في الشمال، بل كان همهم التنمية حتى يلحق الجنوب بالشمالية. وظل الجنوبيون يعيشون بالشمال في محبة وإلفة وسط أخوانهم الشماليين، وانصهروا في مجتمع الشمال بصورة كبيرة في كل مناطق السودان، وفي قريتي الصغيرة (النافعاب) التي يحتضنها منحنى النيل بالشمالية وقد وفد إليها أكثر من شاب من الجنوب قبل سنوات، وانصهروا في مجتمعها البسيط، ونزوحوا وتناسلوا وأصبحوا يلتهمون القراصة في استمتاع، ويعزفون الطمبور باقتدار، وهذا تجده في كل مدن وقرى الشمال، حيث أصبح الوافدون للولاية يمثلون 20% من سكان الولاية. والشواهد كثيرة للعلاقات الحميمة بين الجنوبيين والشماليين.. وقبل أشهر التقت قيادات مايوية بدار تحالف قوى الشعب العاملة، وضم اللقاء السادة اللواء خالد حسن عباس، وصلاح عبد العال، واللواء عوض أحمد خليفة، وآمال عباس، وإبراهيم عبد القيوم، وكان ضيف الشرف اللواء جوزيف لاقو، وكنت حضوراً وفي أريحية سرد اللواء جوزيف لاقو تجربته مع مايو ومع الشمال بصفة عامة، وقال: وأنا في الغابة أقود قواتي ضد القوت المسلحة، تسلمت دعوة للدخول في مفاوضات مع الحكومة من أجل إقرار السلام.. ورفضت الدعوة في إصرار وتسلمت دعوة ثانية مفادها.. أن اللواء الباقر سيكون رئيس الجانب الحكومي حينها قبلت الدعوة دون تردد؛ لأنني عايشت اللواء الباقر وخبرت معدنه الأصيل. وذهبت إلى أديس أبابا ووقعنا على اتفاقية أديس أبابا.. والتفت سيادته إلى اللواء عوض أحمد خليفة قائلاً له: هل تذكر أنك خصصت لي منزلاً بالخرطوم شرق بعد عودتي لأرض الوطن.. ثم خاطب الحضور قائلاً: إن اللواء خالد أصدر قراراً بوصفه وزيراً للدفاع، استقطع بموجبه مبلغاً من رواتب كل ضباط القوات المسلحة لبناء منزلي بالخرطوم. وقبل أشهر وجدت الصديق مصطفى عبادي بالنادي الدبلوماسي يستقبل المدعوين لزواج نجل السيد بونا ملوال، ودلفت إلى النادي ووجدت الحضور الشمالي يوازي إن لم يطغى على الحضور الجنوبي، ووجدت المشرفين على الحفل أغلبهم من الشمال، وهذا هو السودان، وهذه هي الروح التي ينبغي أن نسعى إلى استمرارها وتعميقها.