مع كامل احترامنا وتبجيلنا للسيّد الحسيب النسيب مولانا محمد عثمان الميرغني حفظه الله، وهو احترام وتبجيل مستحق للبيتين الكبيرين - بيت الميرغني وبيت المهدي- لأنهما جزء لا يتجزأ من تاريخ هذا الوطن العزيز ويلتف من حولهما الملايين من أبناء شعبنا المعتز بتاريخه ووحدته الوطنية التي وجدت في البيتين رمزين مستقرين لتجسير هذه الوحدة وعبوراً سالكاً من حالة التشرذم القبلي إلى ظلال الانتماء والإخاء الوطني، وهذا ما يفسر لجوء النخبة المثقفة من رواد حركة الاستقلال الى طلب رعاية البيتين الكريمين في جهادهما المدني وكفاحهما السلمي من أجل الاستقلال. ولكن هذا الاحترام والتبجيل لن يقف حائلاً بيننا وبين مناقشة ما يصدر عن أي من زعيمي البيتين من آراء وأفكار تتعلق بمصير وطن يقف اليوم على حافة الهاوية، لنرى إذا كانت مثل هذه الآراء التي تصدر عن أي منهما تساعد فعلاً على تجنب المصير المشؤوم الذي ينتظر بلادنا عند مفترق الطرق الذي شارفت قافلة الوطن على بلوغه. مولانا الميرغني أدلى بحديث مطول لصحيفة (الشرق الأوسط) الدولية حول قضية الوحدة والانفصال، وأكد في ذلك الحديث الذي تناقلته صحف السبت الصادرة في الخرطوم تمسكه التام والثابت بوحدة السودان.. وعدم التفريط في سنتيمتر واحد من المليون ميل مربع، وطالب الحركة الشعبية بالالتزام بتعهداتها في الحفاظ على وحدة السودان، وقال إن أولوية حزبه الآن هي وحدة السودان ومواجهة المهددات التي تؤدي لفصل الجنوب، وتحقيق «الوفاق الوطني الشامل». وأردف: إن هذه الأولويات تتجاوز الحديث عن قيام حكومة جديدة أو المشاركة فيها أو الانتخابات العامة وتداعياتها. كل هذا الذي تفضل به مولانا الميرغني كلام جميل من حيث المبدأ، وهي أهداف نبيلة ومشروعة ومقبولة من كل حريص على رؤية وطن كبير وقوي وغني «حدادي مدادي» يلعب دوره المرتجى في تجسير العلاقة بين الحضارتين والثقافتين العربية والأفريقية. أهداف لا يستنكرها أو يجافيها إلا قصيرو النظر الذين لا تفارق عيونهم وبصائرهم مواقع أقدامهم المتعثرة. ومع ذلك يظل السؤال المهم والجوهري: كيف السبيل الى العمل من أجل تحقيق هذه الأهداف النبيلة والمشروعة فيما تبقى من وقت لا يتجاوز الستة أشهر المتبقية على الموعد المضروب للاستفتاء على تقرير المصير، وهل يكفي الإعلان عن الموقف والنوايا بديلاً عن عمل مؤسس لإنجاز مثل هذه الأهداف المشروعة والنبيلة؟! وهنا، لا بد من عرض سريع للمشهد السياسي الماثل بين أيدينا، وهو مشهدٌ ظل يراوح مكانه منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي، حين أقر مؤتمر أسمرا للقضايا المصيرية مبدأ تقرير المصير لجنوب السودان، بضغط من الحركة الشعبية، التي خضع زعيمها الراحل الكبير جون قرنق ديمبيور، بدوره، لضغوط القوى الانفصالية خلال المؤتمر العام الأول للحركة في شقدوم بجنوب السودان 1994م ، وهو المؤتمر الذي انعقد بعد الانقسام الكبير الذي قاده بعض أبرز كوادر الحركة حينها من أمثال د. رياك مشار ود. لام أكول والقائد العسكري كاربينو، والذي كان من أبرز أجندته حصر أهداف الكفاح الجنوبي في فصل الجنوب وإقامة دولته المستقلة ووجد تجاوباً من قبل نظام «الإنقاذ» الحاكم الذي أعطى المتمردين على الحركة وعداً بتقرير المصير في لقاء شهير بين د. علي الحاج محمد ود. لام أكول في فرانكفورت، ما وضع القوى السياسية المعارضة ومن بينها قيادة الحركة المركزية في موقف حرج، لم يتمكن القائد العبقري جون قرنق من تفادي تداعياته إلا من خلال الاعتراف بحق تقرير المصير ك«خيار ثانٍ» وبديل «تفاوضي» لخيار الحركة «الأصلي» وهو وحدة السودان على أسس جديدة، تُعيد صياغة مركز الدولة ليعبّر عن جميع مكوناتها الإثنية (العرقية) والثقافية والدينية، وجاء قرنق بعد عام الى مؤتمر أسمرا حاملاً هذا «الخيار الثاني التفاوضي»، وتمكن من إقناع قوى التجمع الوطني بتبنيه كمدخل «للوحدة الطوعية»، وكان مدخل الإقناع أن «حق تقرير المصير هو حق ديمقراطي لكل الشعوب»، وكانت مهمة الإقناع سهلة بدرجة كبيرة، يسرها الواقع الذي خلقه الانقسام في صفوف الحركة واستغلال «الإنقاذ» لهذا الواقع بالدفع بخيار «الانفصال» للقوى الجنوبية المتمردة على الحركة من خلال «اتّفاقية الخرطوم» للسلام من الداخل. فقبلت قوى التجمع الديمقراطي بتضمين حق تقرير المصير و«الوحدة الطوعية» ضمن أجندة «ميثاق أسمرا» الصادر عن ذلك المؤتمر التاريخي. المفارقة -أن الذي كان يرأس تحالف «التجمع الوطني الديمقراطي» هو مولانا محمد عثمان الميرغني الذي وافق على حق تقرير المصير، وهو بلا شك كان يعلم معنى هذا «الحق» ومعنى الوحدة «الطوعية» التي لن تكون «وحدة مفروضة»، وبالتالي ورد بالضرورة الخيار الآخر أيضاً -في إطار هذه «الطوعية والحرية»- وهو ليس شيئاً آخر غير «الانفصال» والاستقلال وتشكيل دولة جديدة، وكان ذلك الموقف سبباً لأن يشهد حزبه ذاته «الاتّحادي الديمقراطي» انقساماً كبيراً هو الأول منذ قيام «الإنقاذ»، إذ رفض حينها الأمين العام للحزب المرحوم الشريف زين العابدين الهندي «حق تقرير المصير» من حيث المبدأ، ورأى أن السودان قد تقرر مصيره منذ الأول من يناير 1956. هذه الخلفية ضرورية، لنا ولمولانا من باب «الذكرى تنفع المؤمنين»، ولكن دعونا، لأسباب عملية نعود لإفادات مولانا لصحيفة «الشرق الأوسط» من خلال الواقع الراهن، حتى نتبين إمكانية الإجابة على تساؤلنا الرئيسي وهو: كيف السبيل للعمل من أجل ضمان أن يكون خيار «تقرير المصير» هو الوحدة وليس الانفصال الذي يعتبره مولانا «خطاً أحمر». حقاً وصدقاً، حاولت عبر قراءة متأنية ومُعادة، أن أتبين كيف تكون الوحدة خياراً مضموناً ومؤكداً وخطاً أحمر من وجهة نظر عملية من خلال إفادات مولانا، ولكني فشلت أن استبين كيف تكون كذلك. والشيء الوحيد الذي لمحته من خلال ذلك الحديث هو قول مولانا ب«تحقيق الوفاق الوطني الشامل» كمدخل لتثبيت الوحدة. ولكنني في الوقت ذاته عدتُ بالذاكرة فأدركت أن حكاية «الوفاق الوطني الشامل» مقولة ظلّ مولانا يكررها قبل وبعد عودته الميمونة إلى السودان. يكررها هكذا دون أن نعرف أو ينبئنا عن كيفية إنجاز هذا «الوفاق الشامل» حتى كاد ينقضي زمن الفترة الانتقالية ذات السنوات الست التي لم يبق على نهايتها وتاريخ الاستفتاء -ختامها- غير ستة أشهر تنقص ولا تزيد. ثم إن أي قارئ للمشهد السياسي لسودان ما بعد الانتخابات لا بد أن يلاحظ أن هذه الانتخابات أفرزت حالة استقطاب وتباعد بين القوى السياسية تذكرك ملامحه بالمشهد السياسي لأوائل التسعينيات، ذلك المشهد الذي اضطر القوى السياسية التي أطاحت بها «الإنقاذ» الى الهجرة للخارج والمنافي، بعد أن انفردت الجبهة القومية الإسلامية وطليعتها العسكرية «الإنقاذ» بمقدرات البلاد وآلت لها كل السلطة والثروة. الفرق الوحيد أن المشهد الجديد قد نجم عن «صندوق الانتخابات» وليس «صندوق الذخيرة»، فتعددت الأسباب والنتيجة واحدة. فأي أمل يراه مولانا في ظل هذه الأجواء ل«وفاق وطني شامل» يكون مدخلاً لوحدة جاذبة، ويجعل من الانفصال «خطاً أحمر»؟! أما عبارة «الخط الأحمر» التي تكررت بكثرة في تصريحات مولانا خلال الأشهر والسنوات القليلة الماضية، فهي في حد ذاتها تستحق التوقف والتأمل، فقد جرت العادة أن الذين يلجأون لمثل هذه العبارة التي تحمل النكير والنذير هم عادة من يملكون «القوة المادية» التي تمكّنهم من تنفيذ إرادتهم «الغلابة» وقدرتهم على تضريج ذلك الخط الذي رسموه بلون الدم في حالة تجاوزه، فهل يملك مولانا وكل القوى السياسية السودانية «المدنية» مثل هذه القوة المادية القادرة على إنفاذ إرادتها في ظل هذا الواقع الذي نعرفه جميعاً؟! هذه مجرد تساؤلات أوحى بها حديث مولانا حول الوحدة والانفصال، وننتظر أن نسمع من مولانا ومن حزبه الإجابة على السؤال الأساسي: كيف السبيل لتفادي خيار الانفصال وتثبيت الوحدة؟!