الآن، وبعد أن شاء الله وأقدار الانتخابات والاستحقاقات الدستورية أن يرفع عن كاهل هذا الشعب الطيب ذلك الحمل الثقيل الذي ظل ينوء به على مدى سنوات طوال بلا طائل ولا عائد، حمل تمثّل في ذلك الجيش العرمرم من الدستوريين- وزراء ووزراء دولة ومستشارون وخبراء وطنيون- كانوا يشكلون «حكومة الوحدة الوطنية» التي أفادتنا أنباء الأمس بأنها كانت تمثل «14» حزباً بالتمام والكمال وليس ائتلافاً بين حزبين أو ثلاثة أو أربعة، وبعد أن ذهب هؤلاء، مشكورين مأجورين، كما خاطبهم الرئيس في الجلسة الختامية الجامعة أمس «الاثنين» فإن رئيس الجمهورية يجد بين يديه فرصة تاريخية ليكافئ هذا الشعب «الصابر» بحكومة «خفيفة وظريفة». عندما تأملت الصورة الجماعية التي نشرتها «أجراس الحرية» بمناسبة تلك الجلسة الختامية التي غطى فيها عديد ذلك الجيش واجهة مجلس الوزراء ولم يكن من الممكن لكثرتهم تبين وجوههم أو ملامح بعضهم إلا بجهد جهيد، أدركت كم كانت مُحقة دعوتنا للحكومة «الخفيفة» قليلة العدد، وكم كان أي من هؤلاء يكلف هذه الدولة الفقيرة المحتاجة لكل جنيه وقرش في موازنتها العامة من أجل لقيمات يقمن صلب جائع أو شربة ماء نظيفة تروي ظمأ عطشان.فيما مضى - أي فترة الحراك السياسي الذي شهدته الفترة الانتقالية ومحاولات ترسيخ السلام والاستقرار- كان مفهوماً ومقبولاً أن تعمل قيادة الدولة على إشراك كل من يؤوب إلى السلام أو يوقِّع اتفاقاً معها بمنحه موقعاً في الحكومة، مساعداً للرئيس أو وزيراً أو وزير دولة أو مستشاراً، بغرض استرضائه وتطيب خاطره وإشعاره بدفء أحضان الوطن. لكن الآن، وبعد الانتخابات، وإشراف المرحلة الانتقالية على الانقضاء، فإننا لا نجد عذراً أو سبباً وجيهاً لحشد مثل هذا الجيش العرمرم في الحكومة ، بل لا نجد سبباً لزيادة عدد الوزارات ذاتها. لو عدنا إلى صورة «الحشد الوزاري والدستوري» الذي غطى الميدان الأخضر لواجهة مجلس الوزراء ، وتصورنا كم يكلف أي من هؤلاء الدولة من خلال موقعه الدستوري لأدركنا حجم المصيبة. فكل واحد من هؤلاء تتكفل الدولة بتوفير سيارة أو اثنين وربما ثلاثة في بعض الأحيان تكون في خدمته بسائقها وبترولها وصيانتها الدورية ونظافتها الدائمة، وبتوفير مكتب أو اثنين أو ثلاثة له ولمساعديه ومديري مكتبه بأثاث فاخر وتكييف مستمر يستهلك ما شاء له من الكهرباء ليتواصل التكييف عبر المولد الكهربائي الضخم الذي يلتهم كماً مهولاً من الوقود خلال ساعات، ولمعظم هؤلاء دور حكومية تتكفل الدولة كذلك بتأسيسها والإنفاق عليها من «مصاريف الضيافة» هذا غير المخصصات الأخرى التي تضاف إلى الراتب الكبير مثل مستحقات المهام الرسمية عند السفر وتذاكر الطيران والعلاج المجاني والهواتف، إنها قائمة من التكاليف يصعب إحصاؤها. والسؤال هو: هل بلادنا في حاجة اليوم لكل هذا الصرف الباذخ من أجل إدارة الدولة، أوليس هي في حاجة ماسة وملحة لأن تخفف من الصرف الإداري على هذا الجهاز الحكومي، وتختصر أعباءه بقدر الإمكان، وما الذي يمنع من تجميع كل الوزارات والمؤسسات والمصالح الحكومية ذات الأغراض المتشابهة والمتداخلة في عدد محدود من الوزارات والإدارات تفي بالغرض وتسهُل إداراتها والسيطرة على أدائها، عوضاً عن هذا الترهل الإداري الذي يغري ضعاف النفوس بالفساد والتهرب من الرقابة والمراجعة، كما أوضحت التقارير الدورية للمراجع العام. ثم أن اختصار الوزارات والصرف الإداري في المركز يفتح فرص النمو أمام النظام الفيدرالي «الاتحادي» الوليد بما يوفره من مال لدعم الولايات لتواجه مسؤولياتها وتطور قدراتها وتحقق قدراً من الاستقلال في أعقاب إعلانه صرف تلك «الحكومة العملاقة» - حكومة الوحدة الوطنية- بشرنا الرئيس بتشكيل «حكومة ذات قاعدة عريضة ومتجانسة» تستطيع أن تنفذ الالتزامات التي وعد بها الشعب خلال الانتخابات. ونرجو أن لا تعني «القاعدة العريضة» مزيداً من الوزراء يمثلون «14» حزباً أو يزيد، كما كان عليه الحال في الحكومة السابقة، فليس بالضرورة أن تكون القاعدة العريضة أو التمثيل الأوسع زيادة في عدد الوزراء أو وزراء الدولة أو المستشارين ، فالتمثيل الأوسع والقاعدة العريضة يمكن التعبير عنها باختصار عدد الوزراء المنتمين للحزبين الحاكمين- المؤتمر الوطني والحركة الشعبية، بالنسب المتفق عليها بين الشريكين، وإضافة عدد آخر يخدمون فكرة التمثيل الأوسع بحكم انتماءاتهم السياسية لمن رغب في المشاركة ورضي بالبرنامج المطروح، بما يحقق الانسجام الذي تحدث عنه الرئيس.المطلوب من الرئيس- في عهده الجديد كرئيس منتخب- هو أن يطلب من وزارة المالية بياناً رقمياً بموارد الدولة الفعلية وبياناً آخر بكم كانت تكلف إدارة الدولة خلال الحكومة الأخيرة أو الحكومات السابقة خلال العقدين الماضيين، حتى يتبين إن كانت هذه المصاريف الإدارية والدستورية معقولة أو عادلة، وأن يقرر وفقاً لذلك كيف له أن يتجنب كل صرف غير ضروري يرهق الموازنة دون عائد حقيقي في مجال التنمية والخدمات الأساسية.باختصار فإن الرئيس أمامه الآن فرصة تاريخية لأن يرفع عن كاهل هذا الشعب عبء «الحكومة الثقيلة» وأن يختصر إدارة الدولة في «10» أو «15» وزارة على الأكثر يجمع فيها كل «شوارد» الإدارات والمصالح والمؤسسات الحكومية ويتخذ لكل وزارة وزيراً واحداً يعاونه، عند الضرورة، وزير دولة أو نائب وزير، وأن يلحق الوكلاء والأمناء العامين والمدراء بسلك الخدمة المدنية تحقيقاً لقوميتها وانضباطها الإداري، وأن يخفض من رواتب الوزراء وجميع الدستوريين إلى الحد الأدنى الضروري الذي يكفل لهم العيش الكريم وليس الرفاه والبذخ، حتى يشعر هؤلاء بأن الوزارة والمنصب الدستوري تكليف وليس تشريفاً، وخدمة للشعب وليس مكافأة لذواتهم، وليكونوا بذلك قد برَّوا بقسمهم الدستوري ويحوزا على رضا الأمة وقبول رب العالمين.. فالحكومة الثقيلة كالضيف الثقيل دائماً ما ينتظر أهل البيت بقلق وتوجس حتى ينصرف و «يحل عن سمائهم» وأرجو أن لا يطول انتظارنا.