تذكّرني دوامة دارفور ما يحدث بين لاعبي «الكوتشينة» عندما يشتجر بينهم الأمر ويختلفون، ويكثر بينهم الغلاط، فيلجأ بعضهم إلى «دكِّ الورق» ويعلنون عن «سي جديد»، أي عن بداية جديدة، وهذا ما استشعرته الليلة قبل الماضية، عندما استضافتني «قناة الشروق» السودانية، مع بداية المفاوضات في الدوحة بين الوفد الحكومي ووفد حركة «التحريروالعدالة» الحديثة التكوين، برئاسة د. التجاني سيسي، حاكم دارفور الأسبق. سألني محاوري من الدوحة عن توقّعاتي - كمراقب- لمآلات الجولة الحالية، وما إذا كانت ستفضي إلى خاتمة سعيدة لأزمة دارفور، فكانت إجابتي بالنفي، استناداً إلى أن الحركة الحديثة التكوين، والتي هي جماع فصائل متعددة منشقة، كان ينتمي بعضها في السابق لحركة جيش تحرير السودان، بقيادة مناوي وعبد الواحد، وبعضها الآخر لحركة العدل والمساواة، بقيادة خليل إبراهيم، لا تجد اعترافاً من الفصائل الكبرى التي تقود القتال، في ميادين العمليات العسكرية في دارفور، وأكبر دليل على ذلك أنها اختارت رئيساً لم ينخرط مطلقاً في عمليات التمرّد، أو كان جزءاً حتى من حركة سياسية دارفورية تعارض الحكومة، وفوق هذا وذاك فإن تفاوض الحكومة مع جزء من متمردي دارفور، في وقت ترفض فيه الحركات الأخرى مبدأ التفاوض، لأسباب تخصها وتقدرها، بعضها يتصل بعدم الثقة في الوسطاء والمنبر، وبعضها الآخر يتصل بشكوكهم في موقف الحكومة، ورغبتها الحقيقية في السلام، فإن النتيجة المنطقية لمثل هذا التفاوض لن تحلّ معضلات الأزمة، أو تقتلع جذورها، فهي بداية جديدة أو «سي جديد» بعد «دك الورق» ولا أحد يستطيع التنبؤ بما إذا كان اللاعبون الحاليون سيشتجرون ويضطرون لدكّ الورق، ويبدأون من جديد، كما حدث ويحدث حالياً مع اتفاقية أبو جا. ثم سألني محاوري من الدوحة، عمّا إذا كنت أعتقد أن الضغوط العسكرية في ميادين القتال والضغوط السياسية عبر دول الجوار، ستُجبر حركة العدل والمساواة، ورئيسها خليل إبراهيم، للّحاق بمائدة المفاوضات في الدوحة، لتعطي الجولة الحالية زخماً إضافياً، وتوسّع من فرص نجاحها، وكانت إجابتي هي أنّني (لا أتوقّع) أن مثل هذه الضغوط العسكرية والسياسية، وحتى الملاحقات الجنائية، ستجبر خليل، وحركته، للالتحاق بالجولة الحاليّة لمفاوضات الدوحة -وهو توقع غير جازم على كل حال -لكن، كما قلت لمحاور «الشروق»: هب أن خليل قد اضطر- لأسباب تكتيكية- للالتحاق بتلك المفاوضات، فماذا نتوقع من مفاوضات مع شخصٍ أو جهة، جاءت لمائدة المفاوضات مضطرة، وليست لتوفر الإرادة السياسية لديها؟ النتيجة ستكون مجرد «تحرك تكتيكي» لا يقدم بل يؤخر، من أوان الوصول إلى حل حقيقي لجذور النزاع وسيعود خليل وحركته إلى نفس موقفهم القديم. فالتاريخ يعلمنا أن حسم النزاعات السياسية التي تتحول إلى حروب عصابات بين جيش نظامي ومليشيات متمردة، لا يتمّ حسمها عبر تسجيل انتصارات عسكرية في هذا الموقع أو ذاك، لأن من طبيعة مقاتلي حروب العصابات أن يضربوا هنا، ويهربوا إلى هناك، وهدفهم الاستراتيجي ليس كسر الجيش النظامي، والانتصار على الحكومة عسكرياً، بل إرهاقها وإزعاجها، واستنزافها سياسياً، حتى تصل إلى الاعتراف بهم، والوصول معهم عبر التفاوض إلى حلول للأزمة، تستجيب لمطالبهم. وأضفت: إذا كانت الأعمال العسكرية تمثل حلاً لمشكلة التمرد، فقد شهدنا جميعاً كيف حققت القوات المسلحة والمليشيات الداعمة لها «انتصارات كبرى» راح ضحيتها الآلاف، وشرد الملايين، داخل وخارج الحدود، ومع ذلك استمرّت الأزمة، وتواصلت حركة التمرد واتسع نطاقها. وجاءت الأخبار، التي أذاعتها صحف الأمس، لتؤكد صوابية هذه التقديرات والإفادات التي أدليت بها لقناة الشروق، في الليلة السابقة، حيث هدّد مني أركو مناوي، رئيس حركة تحرير السودان، كبير مساعدي رئيس الجمهورية، وأهم الموقعين على اتفاقية أبو جا، بالعودة إلى الحرب، في حال عدم تنفيذ اتفاق ابوجا (مايو 2005) واتهم المؤتمر الوطني بعدم الجدية في انفاذ الاتفاق. مناوي كان يتحدث من موقع قواته في الميدان ب«أبو لحا» في شمال دارفور، ودعا جنوده للتماسك وأن «تكون أيديهم على الزناد- بحسب «الصحافة- الثلاثاء 8 يونيو»، وأضاف مناوي مخاطباً قواته: إن قضية دارفور لن تنتهي وإن أسباب الأزمة لا تزال قائمة، وزاد: «المؤتمر الوطني يعتقد أنه هو الوحيد الذي يفهم، والبقية لا تفهم، لكن الخندق الذي حفره سيزيد كل يوم» وقال: إن الخلافات مع المؤتمر الوطني تنحصر في «الترتيبات الأمنية» مشدداً على ضرورة تنفيذ نص أبو جا الخاص بالقوات المُدمجة. لكن ذهب أبعد من ذلك للهجوم على ثلاث جهات، أسماها: «الثالوث الشيطانيّ» الذي تسبب في الأزمة، وحددها بالمؤتمر الوطني، والمؤتمر الشعبي، وحركة العدل والمساواة. الملاحظة الرئيسية التي يمكن تسجيلها في تصريح مناوي هذا هو أن من وصفهم «بالثالوث الشيطاني» يعودون جميعاً بجذورهم إلى جهة سياسية كانت تشكل تنظيماً واحداً في السابق هي «الجبهة القومية الاسلامية» بالاضافة إلى إعلانه وتعبئة جنوده للاستعداد للحرب بأن «تكون أيديهم على الزناد» وهذا في حد ذاته يشكل نذراً جديدة ل«دك الورق». وجاء في الأخبار أيضاً، أن تقريراً داخلياً لقوة حفظ السلام المشتركة «يوناميد» قد تحدث عن أن نحو (600) شخص لقوا حتفهم في المواجهات الأخيرة بين القوات الحكومية، ونزاعات القبائل المسلحة في دارفور، خلال الشهر، الماضي، وأن هذا الرقم يمثل أكبر حصر لسجل الوفيات، منذ تشكيل القوة الدولية الأفريقية المشتركة، في يناير من العام 2008. وهو التقرير الذي شكل بوادر «أزمة مكتومة» على حد تعبير إحدى صحف الأمس (الأهرام اليوم) بين بعثة «اليوناميد» و القوات المسلحة السودانية، حيث طعن الناطق باسم القوات المسلحة في مصداقية مسؤول اليوناميد. لكن أهمّ ما ورد في ذلك التقرير الدولي، هو خلاصته، القائلة بأنّ «تزايد عدد القتلى، وتوسّع انتشار القوات، وعدم تمكين فرق العون الإنساني، من الوصول إلى مناطق النزاع، كلها إشارات تدل على أنّ «الوضع يتّجه على الأرجح نحو التصعيد». و «التصعيد» في هذا الوقت الحرج والخطير، وقبل شهور معدودة من الاستفتاء على حق تقرير المصير للجنوب، فهو -عندي- لا يعني سوى محاولة أخرى ل«دكّ ورق الاتفاقيات» على أن يبدأ «سي جديد».. وربنا يجيب العواقب سليمة، ويحفظ الوطن!