مرة أخرى، يرفدنا د. علي محمد عثمان حسن التوم أستاذ التربية واقتصاديات التعليم بجامعة أم درمان الإسلامية بدراسة نقدية قيمة حول قضايا التربية والتعليم في بلادنا، وهي دراسة كما سيرى القارئ تشخص العلل والنواقص التي يعاني منها تعليم الأساس في بلادنا، وتقدم العلاج والحلول من خلال توصيات مرفوعة إلى مؤتمر التربية القومي الرابع المزمع عقده قريباً، لمواجهة المشكلات والانهيارات التي يشكو منها هذا القطاع الحيوي المرتبط عضوياً بمستقبل الوطن، والذي بدون إصلاحه سيجد نفسه يضرب في التيه أو ينحدر إلى هاوية بلا قرار. وكنا وما زلنا في «آخر لحظة» نرتب لعقد ندوة حول قضية التعليم، تسبق المؤتمر المرتقب، وندعو لها أصحاب الاختصاص وبعض أصحاب القرار لتخرج برؤية تساهم في تعظيم الفوائد المرجوة من ذلك المؤتمر.. فإلى نص الدراسة «الحلقة الأولى»: مرحلة تعليم الأساس: العصر الذي نعيشه له سمات وله ملامح وله خصائص معينة هذه الاعتبارات فرضت اتجاهات وأفكاراً ومفاهيم تربوية جديدة، من أبرزها فكرة تعليم الأساس، فهي بحق تمثل لوناً من ألوان التجديد والتحديث والابتكار في مجال التربية. وأهم دواعي الأخذ بصيغة التعليم الأساسي عالمياً هو ما واجهه التعليم الابتدائي بصيغته التقليدية من مشكلات وما شابه من قصور في مخرجاته، ومعلوم أن التعليم الابتدائي يمثل قاعدة السلم التعليمي ومن هنا برزت أهمية هذه المرحلة باعتبارها الركيزة الأساسية للتعليم، فسلامتها ونجاحها في تحقيق أهدافها يمكن المراحل الأخرى من نجاحاتها وتحقيق أهدافها أيضاً ومن ثم نجاح التعليم كله. ولهذا كان الاهتمام بالتعليم الابتدائي وحل مشكلاته يمثل الخطوة الأولى في سبيل إصلاح نظام التعليم برمته. ومن هنا يمكن أن نتفهم توصية المؤتمر الثاني للتربية الذي انعقد في سبتمبر 1990م بالأخذ في صيغة تعليم الأساس كأحد الصيغ الجديدة لتطوير نظام التعليم وعلاج سلبياته، خاصة وأن هذا التوجه جاء عقب تغيير النظام السياسي في السودان عام 1989م. وتجربة السودان في تطبيق صيغة تعليم الأساس والتي بدأ تنفيذها في العام الدراسي 92- 93م قاربت على العقدين من الزمان وهي فترة زمنيه معقولة لتقويمها، وقد واجهت التجربة السودانية كثيراً من المشكلات وتعرضت للنقد ودارت حولها كثير من المناقشات من رجال التربية وغيرهم ، مما أظهر وجهة نظر متباينة بشأن جدية التطبيق وفقاًَ لمفهوم هذا التعليم ، وأسسه ومبادئه وما يحتاجه من تغيير وتطوير في بنية النظام التعليمي وإدارته ومحتواه ومناهجه وأساليب تقويمه وإعداد معلمه. وهنا أذكر السادة المؤتمرين الأجلاء أن الرؤية الموضوعية والعلمية الناقدة يجب أن تستند على معايير ومحكات معينة تتمثل في مفهوم تعليم الأساس، وفلسفته وأهدافه وأسسه وسماته ومتطلبات تطبيقه، حتى يأتي الحكم سليماً على تجربتنا الوطنية في تطبيق التعليم الإساسي فكراً وممارسة. كما يجب إن ندعم الرؤية بالتعرف على بعض النماذج في تطبيقات صيغة هذا التعليم في بعض الدول باعتبارها نماذج واتجاهات معاصرة ناجحة يمكن الاستفادة منها. ولما كانت طبيعة هذه الورقة أو المقالة لا تسمح بكل هذه التفاصيل أطمئن القارئ الكريم أنها تستبطن وتستصحب كل تلك المعايير والمحكات في رؤيتها الناقدة هذه، كما أنها لابد من أن تشير إلى ما لابد من ذكره تفصيلاً من بعض تلك المعايير والمحكات حتى تأتي الرؤية ناضجة ومكتملة. المفهوم التقليدي لتعليم الأساس، يعود إلى ثلاثينيات القرن العشرين عندما دعا «الزعيم غاندي» إلى مفهوم جديد للتعليم الابتدائي، اعتبره أساساً لبرنامجه للإصلاح الاجتماعي في الهند وهو تعليم الأطفال الصغار من سن6-14 سنة تعليماً يبتعد عن الأساليب التقليدية، ويقوم على أساس التعلم عن طريق النشاط وتعليم الحرف اليدوية التي تناسب البيئة أو ما أطلق عليه فكرة «ترييف التعليم»، وهي الفكرة التي استوحاها منه «مستر جريفث» عندما أنشا معهد «بخت الرضا» فيما بعد. وفي سبعينيات القرن العشرين ظهرت مفاهيم جديدة لتعليم الأساس جمعتها إستراتيجية التربية العربية في مفهوم واحد شامل له صفتان متداخلتان ومتكاملتان. الصفة الأولى: تربوية، والمقصود بها توفير تعليم مناسب لجميع المواطنين. الصفة الثانية: اجتماعية، والمقصود بها توفير حد أدنى من الفرص التعليمية لأعداد كبيرة من الصغار والكبار لم يحظوا بحقهم في التعليم، أو تسربوا منه بحكم القهر الاجتماعي وضعف المستوى الاقتصادي ولهذا عُرِّف تعليم الأساس بأنه «مرحلة التعليم الأولى بالمدرسة، التي تكفل للطفل التمرس عن طريق التفكير السليم وتؤمن له الحد الأدنى من المعارف والمهارات والخبرات، التي تسمح له بالتهيؤ للحياة، وممارسة دوره كمواطن منتج داخل نطاق التعليم النظامي، إلى جانب ما يقدم من خدمات تعليمية للكبار خارج نطاق التعليم النظامي في إطار التربية المستديمة، وأنه التعليم الذي يوثق الروابط بين التعليم والتدريب في إطار واحد متكامل، ويهتم بالدراسات العملية والمجالات التقنية والفنية في جميع برامج التعليم للصغار والكبار على السواء». كما أن لهذا النمط من التعليم ، ثلاثة أهداف جوهرية، تتضمن أهدافاً تفصيلية وأبرز الأهداف الجوهرية هي: تعليم مهارات الاتصال وتشمل على الأقل معرفة القراءة والكتابة والحساب والمعلومات العامة والقيم والاتجاهات. تعليم مهارات تحسين نوعية المعيشة وتشمل معرفة القواعد الصحية وأصول التغذية وتخطيط الأسرة ودراسة البيئة والتدبير المنزلي. تعليم مهارات الإنتاج وتشمل أنواع النشاط الموجه نحو كسب العيش أو إنتاج السلع والخدمات لكل مستوى من مستويات التطور الاقتصادي. وقبل الحديث عن واقع التجربة السودانية، يجب أن نذكر بمسلمة أساسية وهي أن نجاح العملية التعليمية يتطلب توافر العنصرين الاساسيين الآتيين: 1 - قوى بشرية فنية وإدارية واعية بالأهداف تعمل بفهم وتعاون وتتكون من هيئة تدريس + جهاز إداري(مديرين - إداريين وعمال) + موجهين. 2 - الإمكانات الملائمة والتي تعتبر العامل المساعد للقوى البشرية وتتمثل في مناهج وخطط دراسية - كتب منهجية - يتجهيزات ومستلزمات - وسائل معينة - مباني مناسبة - ميزانية كافية.