هل راودتك مدينة ما عن نفسها، ولم تفعل كما فعل يوسف عليه السلام، بل قد قميصك من قُبلٍ؟ هكذا تفعل بعض المدن بالبشر، تراود الجميع بلا استثناء عن نفسها، لا تستحي. ستستجيب لها، من أول نظرة، لن يردعك وازع ولا تخشى أن تقطع نسوة المدينة أياديهن. هكذا كانت كسلاالمدينة. أهل كسلا.. غمرتهم المدينة بروحها فأصبحت لهم نكهتم الخاصة التي تميزهم. تلك الروح مثل معمل كيميائي، ما أن تضع قدميك على حافة مدخله حتى يصهر خلاياك وجزيئاتك وذراتك لكيما يحقق بك ولك المعادلة التي لا بد أن يتساوى طرفاها، وهي هنا المدينة بروحها وإنسانها بكل خباياه. ما أن ترى الشخص في أي مكان آخر، وإن فشلت في التعرف عليه من النظرة الأولى دعه يتحدث إليك، ستعرف إنه من كسلا، أو عاش وترعرع فيها ردحاً من الزمن. هناك عالم تراه مثل كل المدن للوهلة الأولى، ولكن سرعان ما يكتشف المرء خصوصيته كلما اقترب منه أكثر. خيط رفيع جداً لا يكاد يبين يجعلك تتنقل بين القبائل هناك، لا تكاد تفرق بينهم (كان هذا في وقت عشته فيها، أما الآن بعد أن جاء التتار لست أدري). الحلنقة، الهدندوة، البني عامر وقبائل الشمال والغرب والوسط وأولاد راشد وغيرهم، توزعوا بين أحياء المدينة. تراهم في غرب القاش بأحيائه المعروفة.. غرب القاش، بانت، حي العرب، حي العمال والسواقي شمالها وجنوبها، وربما استجد جديد، وشرق القاش بأحيائه المشهورة يحاصرها الجبلان من ناحية الشرق والقاش من الجنوب والغرب وتنفتح شمالاً على أفق ممتد. يقول بعض الأرتريين إن مدينة أغوردات الأرترية الواقعة على حافة الهضبة والمنخفضات هي مدينة سودانية بامتياز، فهي تأخذ ملامحها في كثير من العادات والتقاليد واللغة من نبع سوداني، وفي هذا الحديث حقائق كثيرة بل حقائق مطلقة إن شئت، لذلك لا يرى الأرتريون إنهم غرباء في كسلا بل يعدونها مدينة أرترية بامتياز. تلك نكهة أخرى تشتمها مع أنفاس المدينة. حبل سري يربط بين كسلاالمدينة وأرتريا.. لم تستطع حتى قابلة هذا الزمان أن تقطعه، لأنه خلق هكذا غير قابل ل(القطع)، لأنه ليس حبلاً مادياً وإلا تحكم فيه مزاج الناس ليقطعوه ويرتقوه حسب مقتضى الحال، هو شيء مثل مجرى البحر لا سبيل لتغييره. مثل كل الأشياء التي تعكس التمدن (كان) هناك خط للسكة حديد يربط بين كسلا ومدينة تسني الارترية الحدودية، وهي على مرمى حجر بالطريق البري. تلك المدينة لم تغب عن خارطة النضال السوداني من أجل الحرية، فقطار كسلا الشهير في اكتوبر 64 يقف شاهداً على عشق أهلها للحرية ومقتهم للدكتاتورية، وكثيرة هي مواقف أهلها المستمرة ختى الآن. لذلك لم يكن غريباً أن كانت كسلا الحضن الدافئ للثورة الأرترية ضد الاستعمار الاثيوبي إلى أن تحررت إرتريا، مثلما كانت تحتضن إلى جانبها المقاومة الإثيوبية لنظام هيلا سلاسي ومن بعده نظام منقستو، ليجتمع الاثنان وينطلقا بعد عقود نحو العاصمة الاثيوبية اديس لدك حصون النظام الديكتاتوري هناك، وتنال أرتريا استقلالها. ويستمر العسل بينهما أشهراً معدودات ثم تعود جرثومة الحرب لتنهش جسد العلاقة بينهما. الأكثر دهشة هو إنتقال الحرب الأرترية الأرترية (بين فصائلها) أثناء الثورة إلى داخل مدينة كسلا، ولا يزال عالق بذهني ذلك الحادث في منتصف سبعينيات القرن الماضي، وانا بعد طفل، عندما خططت مجموعة لاغتيال قيادي في فصيل آخر كان يسكن الشعبية. ظلت المجموعة تراقب خطواته وحركته، لكنها لم تنتبه لتلك المرأة السودانية التي كانت تراقبهم أثناء ذلك. وما أن وجدوا الفرصة المناسبة أثناء مرور عربة القيادي المعني حتى فجروا قنبلة عن بعد لتصيب سيارة خلفه، ويفاجاوا خلال ثواني بأن إمرأة سودانية تلقي القبض على أحدهم وتتمسك بتلابيبه، وتساعد بصياحها في القبض على البقية. ولم تكتف المدينة بذلك بل تحتضن قبور عدد من الرموز الارترية أمثال ابراهيم سلطان وأرقاي هبتو وسعيد صالح ومحمود حسب وآخرهم عبد الله إدريس محمد الذي توفى في لندن وتوسد ثرى كسلا. كل ذلك وتبقى كسلا الحضن الدافئ لكل من ضاقت به بلاده، رغم ضيق كثير من أبنائها بها الآن وهروبهم إلى المهاجر والمنافي والمركز. من لم يغن لكسلا من المطربين؟ حتى من لم يصدح بالغناء لها يتمايل طرباً حين سماعه الغناء لها. المرحوم الفنان عبد العظيم حركة كانت كسلا تمثل خاصرة أغنياته، لم يترك حي من أحيائها أو معلم من معالمها إلا ودخلته نغمة من ألحانه حين يشدو: أرض الحبايب يا رمز المحنة في و اديك ولدنا ضقنا حنان أهلنا سكانك اطايب عامرين بالأماني ألحانك تملك نشوة و أغاني يسعد في حبور راح ريدم حواني لو ما فيك و لدتا كان الهم طواني في كسلا.. كسلا ..كسلا روحي برضك لي حبيبة خيراتك و فيرة دوام ارضك خصيبة القاش مناظر و جبالك عجيبة لو مافيها روحي كيفن اقدر اسيبا ترقد في الجبال التاكا الابية توتيل و الحلنقة ديم الميرغنية السوريبة روض رضوان هدية القوازة زهرة تتفتح ندية أو ذلك الشاعر الذي وقع في حب كسلا وترك دياره (عشانا)، أم اسحق الحلنقي صاحب القلب (الرهيف) تجاهها الذي يناشد محبوبته البقاء (فايت مروح وين ما لسه الزمن بدري) فيصدح بها التاج مكي ليعرف الناس كل الناس طيب شباب كسلا، أم الفنان زيدان الذي بالرغم من عنف القاش وارتجاف اوصال المدينة حين سماع هدير امواجه يغني (باكر يعود القاش ترجع عيونو حنان). كل ذلك كوم والصفحة الرياضية كوم آخر، تلك الحياة التي تردت في زمن المتردية والنطيحة. من إشراقات كسلا الموجبة تلك الحرية والرغبة في الانطلاق، فالمدينة كما ذكرت لها روحها، فمن الطرائف أن كان والدي يوماً رئيساً لنادي المريخ في كسلا، وكان النادي يقع ضمن اندية منطقة غرب القاش، بينما كنت أشجع (فريق) الميرغني في منطقة شرق القاش وأنا أرى لاعبي المريخ يجولون بيننا ولا يزعجني شيء في المدرجات إلا الصياح باسم الثنائي المريخي (عيد وسعيد)، ويناكفني جارنا مدافع المريخ مراد جمال. كان استاد كسلا عالماً قائماً بذاته ذلك الوقت، أباطرته (مصطفاتو وحاج بدي وعيد وسعيد وغيرهم). تظل كسلا من المدن التي تستبيح الوجدان، تحن وتشتاق إلى زيارتها مهما طال الزمن، وتظل معلقة بجدران الذاكرة بمعالمها التي لا تنطمس وأهلها الذين يتوسدون مكانهم في القلب. وكثيرة هي المدن التي تستبيح الوجدان والتي تستحق الكتابة عنها وسيكون.