تظل مدينة كسلا واحدة من أجمل المدن السودانية، ويظل إنسانها أعظم ما يميزها، وجاء اجتماع عناصر عديدة شكلت مواطنها من مختلف أنحاء الشرق وبقية أنحاء السودان بل شمل تكوينها الإثني عناصر أخرى امتدت حتى غرب إفريقيا، من الحجيج الذين آثروا كسلا على بلادهم فاستقروا بها وأصبحوا جزءاً من مكونها السكاني والثقافي والاقتصادي. كسلا قديمة، ربما تعود نشأتها إلى الربع الأول من القرن السابع عشر، تحديداً في 1623م وكانت مقراً لمشيخة قبلية ضمت مجموعة من القبائل العريقة ثم زادت الرقعة المأهولة حول القاش وعند سفح توتيل، وضمت قبائل الهدندوة والبني عامر والأشراف الذين جاءوا من مكةالمكرمة ومن سواكن، إلى جانب بعض الشكرية، وانضمت إليهم قبائل الحلنقة وهم من الأعراب الرعاة الذين هاجروا من الجزيرة العربية قديماً عبر باب المندب، ومن ثم بلاد الحبشة إلى منطقة كسلا التي استقروا بها ليكونوا جزءاً من نسيجها السكاني الفريد الذي أظهر أعظم ما لدى هذه القبائل من قيم وشيم وخلق قويم.. واختارت الأسرة الميرغنية «الشريفية» منطقة كسلا في العام 1840م لتكون مركزاً لها وعاصمة لنفوذها الروحي الأمر الذي استقطب للمدينة مهاجرين جدد جاءوا من المديريات الشمالية وعملوا بالزراعة ونمت المدينة وبرزت اهميتها عام1860م كأحد أهم أسواق السودان التجارية الرئيسية وأصبحت مركزاً للتجارة العابرة بين السودان وأثيوبيا قبل انفصال أريتريا عنها، وتعتبر الآن حدودها مع دولة أريتريا الشقيقة هي الأطول إذ تتجاوز الثلاثمائة وخمسين كيلومتر، وهي حدود وهمية إذ أن التداخل ظل قائماً منذ الأزل بين أبناء المنطقة الذين لا يعترفون بتلك الحدود الاستعمارية، وظلت كسلا نموذجاً للتآخي والتواصل والتداخل. أصبحت كسلا في العام 1880م أهم مدن الشرق، ومع الثورة المهدية أصبحت مسرحاً للحروب، وتعرضت للاحتلال الإيطالي عام 1894م وقد استمر لثلاث سنوات لكنه تراجع وانهزم ولم يترك وراءه إلا الصورة الزاهية للبطولة السودانية في مقاومته. أعتز كثيراً بأن لي انتماءات ولحم ودم بشرق السودان، بل وأفخر بذلك وأكاد أعرف الشرق كله وأزعم أنني ملم بطبائع أهله الكرام وأنشطتهم الاجتماعية والاقتصادية، وهذه الأخيرة يختلف فهمنا وتعاملنا معها لعدم معرفة الكثيرين منا لطبيعة المنطقة والناس هناك، فالناس يتنقلون داخل الأراضي السودانية والأريترية بصورة عادية ويتاجرون ويتزاوجون ويمارسون حياتهم دون «رسميات» لكن الحكومة تتدخل من حين لآخر وتنشر قواتها لمحاربة ما تسميه بالتهريب الذي لا يحسبه الناس كذلك فتحدث المناوشات والمصادمات، وربما تسيل الدماء وتزهق الأرواح في أمر تظن الحكومة أنه مخالفة ويحسب المواطن أنه حق ونشاط عادي. بعثنا قبل أيام بأحد محرري الصحيفة إلى كسلا للتحري والتقصي حول مقتل مواطن طاردته السلطات بتهمة التهريب فشاء حظه العاثر أن يسقط متأثراً بالإصابة شهيداً بإذن الله.. ووردت معلومات غير دقيقة وبعضها غير صحيح حول هذا المواطن وتلك الحادثة نعتذر عن إيرادها بالصورة التي وردت بها ونسأل الله أن يغفر لنا وأن يرحم الفقيد العزيز وأن يتقبله القبول الحسن ويسكنه فسيح جناته وأن يلهم آله وذويه الصبر والسلوان. ونرى أن هذه الحادثة يجب أن تفتح عقولنا وأعيننا على الواقع الذي يعيشه إنسان الشرق والذي ينظر له كل منا بعين تختلف عن عين الآخر.. للمنطقة خصوصية ولأهلها خصوصية، لذلك لا بد من وقفة للمراجعة والإصلاح.