تعد اتفاقية الحريات الأربع التي وقعها السودان مع دولة جنوب السودان في أديس أبابا مؤخرا, خطوة في بناء العلاقات الأخوية المستقبلية بين البلدين, كما تعد خطوة إستراتيجية مهمة في ظل التحديات الخارجية المفروضة على السودان. وفي ذات الوقت هي مدخل لإعادة بناء العلاقة على أسس جديدة, تقوم على تحقيق المصالح المشتركة, وتدعم أواصر العلاقات بين الشعبين, كما تعزز الدور المحوري للسودان في المجال الإقليمي, والتي سوف نتعرض لها لاحقاً في المبحث, كما إن زيارة السيد رئيس الجمهورية المرتقبة إلى جوبا, تعد أيضاً خطوة إستراتيجية ضرورية, بهدف تمهيد الطريق لإنهاء ما تبقَّى من خلافات مع دولة جنوب السودان, وتحديد شكل إطار العلاقات المستقبلية, ليس فقط على المستوى السياسي, إنما تطال كل المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. والزيارة تعد اختراقاً إستراتيجيا, رغم أنها قد تأخرت كثيرا, وأذكر أنني كنت في مقال كتبه ونشر في جريدة «الأحداث», تعليقاً على حديث السيد رئيس الجمهورية, في اللقاء الذي أجراه معه الأستاذ الطاهر حسن التوم لتلفزيون السودان, وتحدث فيه الرئيس عن أن عوامل الحرب, والتي تفرض ذاتها على العلاقة, كنت قد اقترحت, أن يقوم الرئيس بزيارة لجوبا, يخترق بها جدار الخلافات ويؤسس لروح جديدة للحوار بين البلدين, وتعد نقلة في مستوى العلاقات الإستراتيجية. إن اتفاق أديس أبابا للحريات الأربع بين السودان ودولة جنوب السودان, سوف يغسل رواسب نفسية كثيرة عالقة في نفوس الطرفين, ومن ثم يفتح آفاقاً جديدة للحوار, خلافاً للحوارات السابقة التي كانت تأتي إليها الوفود, وهي تحمل توتراتها التي شكلتها أحداث الماضي والتاريخ والحروب والصراعات, والتي تؤثر على مجريات الحوار, باعتبار أن الذهنية المعدة سلفاً لا تنظر للقضية بمنظار مستقبل العلاقة, والمصالح بين الشعبين, إنما تنظر إليها بنظارة رمادية بمعيار النصر والهزيمة, ولكن الاتفاق سوف ينقل الحوار لمربعات جديدة, تكون بيئتها خلافاً للسابقة, لذلك نجد أن الاتفاق قد وجد تأييداً من قبل القيادات الحاكمة في البلدين, ففي السودان أقرت الحكومة السودانية رسمياً في الاجتماع الأسبوعي لمجلس الوزراء, اتفاق أديس أبابا الأخير بين الخرطوموجوبا بكفالة الحريات الأربع. وفي الجنوب قال رئيس دولة جنوب السودان سلفاكير ميارديت, في خطاب جماهيري في مدينة واو, قال فيه (إنهم كانوا يتمنون أن يصل الطرفان لاتفاق حول حق الجنسية المزدوجة لمواطني البلدين, لما يربط بينهم من علاقات تاريخية, و أنهم مع هذا يرحبون بالتوقيع على الاتفاق, الذي يوفر الحريات الأربع لمواطني البلدين). إذن موافقة القيادات السياسية في البلدين, تؤكد أن الطرفين جادان على البحث عن حلول للخلافات بينهم. ونجد أن القوى السياسية المعارضة في السودان, أيضاً قد أيدت الاتفاق, واعتبرته خطوة مهمة في بناء العلاقة الأخوية بين الشعبين, رغم أن حزب الأمة القومي, ذهب في ذات الاتجاه الذي ذهب إليه رئيس دولة جنوب السودان السيد سلفاكير, حول قضية الجنسية المزدوجة, حيث أصدر حزب الأمة القومي برئاسة السيد الصادق المهدي, بياناً يرحب فيه بالاتفاق الإطاري بين الدولتين, واعتبر البيان الاتفاق خطوة مهمة, ومطلوبة لتحقيق التوأمة بين البلدين, حاثاً على إكمال الاتفاق بتقرير حق الجنسية المزدوجة للشماليين المقيمين في الجنوب, والجنوبيين المقيمين في الشمال. إلا أنه برز تيار يعارض الاتفاق, وهو تيار ليس لديه سند جماهيري, بقدر ما هو تيار على هامش السلطة, يستغل وسائل إعلامية وإمكانيات متاحة له, ولكن التيار نفسه شبيه بالحشائش الطفيلية, والتي تعيش في الحقول إلى جانب النبتات الرئيسية, ولكنها تؤثر سلباً على الإنتاج الزراعي, لذلك قال عنهم السيد علي كرتي وزير الخارجية (إنهم لم يفهموا نصوص الاتفاق, وقال الاتفاق يعتبر بذرة جيدة للتواصل الاجتماعي والاقتصادي مع شعب دولة جنوب السودان, ومفتاح مناسب لأرضية تفاوضية مقبلة, تتسم بالوضوح والشفافية). ورغم أن التيار المعارض يحاول أن يتخذ من المرجعية الإسلامية ركيزة لرفضهم للاتفاق, ولكنهم بهذا المنهج يظهر أنهم لم يقرءوا تاريخ المعاهدات الإستراتيجية في الإسلام, منذ وثيقة المدينة, والتي كان قد وقعها الرسول صلى الله عليه وسلم, مع يهود المدينة, مما يجعل مواقفهم لا تسندها النصوص في الإسلام, بقدر ما هي تعبير عن مصالح ذاتية, ليس لها تأثير على مجريات العمل الإستراتيجي المستقبلي بين الدولتين. ومثل هذا التيار لا يستطيع أن يعيش في أجواء الحرية والديمقراطية, إنما هو وليد البيئة غير الديمقراطية, ودائماً تجده ليس في السودان فقط إنما في كل الدول ذات الحزب الواحد, أو النظم الديكتاتورية, يظهر فيها مثل هذا التيار, ولكن تقضي عليه رياح الحرية والديمقراطية, وهم لا يجدون غير لعب الأدوار السالبة في حياة المجتمعات. تعد الزيارة المرتقبة للسيد رئيس الجمهورية لجوبا عاصمة دولة جنوب السودان, خطوة مهمة لكسر الحاجز النفسي, وإزالة التوترات والتشنجات, والتي أثرت سلباً على عملية الحوار بين الطرفين, وفي ذات الوقت أوصلت البلدين إلى حافة الحرب, وهي أيضاً تعتبر اختراقاً إستراتيجياً مهما, يفتح آفاقاً جديدة للحوار بين البلدين, ويحاول أن يؤسس لأرضية مشتركة, وحتى إذا لم يصل فيه الطرفان إلى اتفاق, لكنه يخفف حالة التوترات بين البلدين, وهو يعد اختراقاً إستراتيجياً لأنه يؤسس للآتي:- أولاً – إن حالة التوتر بين البلدين تحاول أن تستغلها بعض الدول في الإقليم من أجل مصالحها الذاتية وهي تستفيد من حالة الانقطاع والتواصل بين الدولتين وهي ليست تستفيد فقط بل تحاول أن تعمق شقة الخلاف وتلعب على التناقضات لتحقيق مصالحها وهي تعرف أن تحسين العلاقات بين البلدين سوف يقلل من مساحات حركتها. ثانياً – إن أي حوار مفتوح بين القيادات في البلدين, سوف يخفف حدة التوتر, ويضعف العوامل التي يمكن أن تؤدي إلى الحرب, والتي تتبعها كوارث إنسانية واقتصادية واجتماعية على الدولتين, كما إن حركة الموطنين بين البلدين تخفف حدة الاختناقات, وتفتح الباب للمد الشعبي الرافض للحرب والنزاع. ثالثاً - إن دولة جنوب السودان دولة ناشئة, تحتاج لمجهود كبير لتشييد البنيات الأساسية, فليس من المصلحة أن تمنع الشركات السودانية والقطاع الخاص بكل مكوناته في الاستفادة من ذلك, وأن توضع له العراقيل لسوء العلاقات بين البلدين, وأن الاقتصاد ومصالح المواطنين العابرة لحدود البلدين, سوف تكون سبباً مباشراً في الضغط على الحكومات من أجل العمل لصناعة السلام والاستقرار. رابعاً – تقول الحكومة هناك تحديات خارجية مفروضة على السودان, تتخذ من الجنوب نقطة انطلاق, باعتبارها دولة لم تكتمل فيها المؤسسات, لكي تؤدي دورها بفاعلية, لذلك من المهم أن تكون هناك أبواب مفتوحة بين الدولتين, وحوار متواصل بينهما, حتى لا تعطي فرصة لتلك التحديات أن تبني مراكزها في دولة الجنوب, وشعور المواطن الجنوبي أن مصالحه مرتبطة بعلاقة جيدة مع الشمال, سوف يشكل حماية طبيعة للعلاقة بين البلدين حاضراً ومستقبلا. خامساً – تستطيع دولة جنوب السودان أن تلعب دوراً فاعلاً في قضية السلام والاستقرار في البلدين, خاصة أن الحكومة الخرطوم تتهم الحركة الشعبية في دولة جنوب السودان بأنها توفر الدعم اللوجستي لمقاتلين الحركة الشعبية قطاع الشمال, والحركات الدارفورية, وتستطيع أن تدفع حكومة الجنوب لكي تسهم في الحل, وتأكيداً لذلك دعا السيد سلفاكير رئيس دولة جنوب السودان, في خطابه في مدينة واو, حكومة الخرطوم إلى حل سلمي مع معارضيها, من حركات دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق, للوصول إلى سلام واستقرار دائم في المنطقة, ومن هذا المنطلق تستطيع أن تسأل حكومة الخرطوم الرئيس سلفاكير أن يلعب الدور الأساسي في حل المشكلة, ويقنع تلك الحركات بالجلوس للحوار لوقف العنف. سادساً – يعتبر الجنوب بوابة السودان لدول جنوب أفريقيا وجنوب شرق أفريقيا, وأن تكون دولة جنوب السودان معبراً للصادرات السودانية لتلك المناطق, إذا توفر السلام والاستقرار في الدولتين. سابعاً – يجب أن لا تفرط حكومة السودان على أن يكون ميناء بورتسودان هو المدخل الوحيد لواردات وصادرات جنوب السودان, حيث أن دولة جنوب السودان دولة حديثة تحتاج لكثير من الصادرات, وهي سوف تنعش منطقة بورتسودان وكل المدن التي تقع على الطريق, مما ينعش الاقتصاد السوداني, ويفتح عشرات الآلاف من الوظائف, ويستوعب مئات الآلاف من الأيدي العاملة في الخدمات التي تقدم عبر الطريق. ثامناً – إن التجارة التي سوف تنشأ في مدن وقرى الحدود بين البلدين, والتداخل والتفاعل بين المواطنين, سوف يمنع في المستقبل أي عمل عسكري, يمكن أن يؤثر على مصالح المواطنين في البلدين, بل سوف يقوي العلاقة والروابط المشتركة. تاسعاً – إن الروابط والعوامل التاريخية والثقافية والوجدانية واللغة بين البلدين, سوف تعطي العلاقة بين البلدين خاصية وتمييزاً أكثر, من علاقة أي دولة أخرى, فاقدة مثل هذه الخاصية, كما إن بعض الدول تحاول أن تمزق هذه الروابط دعماً لمصالحها, ومصالح مواطنيها, وبالتالي يجب النظر للعلاقة بمنظارين, منظار الروابط والثقافة, ومنظار المصالح المشتركة. هذه بعض من العوامل التي تجعل زيارة السيد رئيس الجمهورية زيارة اختراق إستراتيجي مهمة, حيث تفتح آفاقاً للحوار على المستويين, الرسمي والشعبي, ودائماً الدول التي تريد استمرارية للعلاقة تركز على العلاقة على المستوى الشعبي, وتفتح قنوات اللقاءات الشعبية, باعتبارها الأكثر تأثيراً والأعمق, وعندئذ تحاول الجهات الرسمية أن تستفيد من وشائج العلاقات الشعبي, لكي تصدر القوانين التي تحمي تلك العلاقة, وحتى لا يغيب علينا أيضاً أن أي عمل إستراتيجية للدولة, في شؤونها الخارجية, يعتمد أساساً على متانة الجبهة الداخلية للدولة, باعتبار أن الدولة التي تعاني من نزاعات وصراعات وحروب داخلية أكثر عرضة للاختراقات الخارجية, لذلك تحاول الدول أن تتصالح مع نفسها في الداخل, ثم تنطلق خارجيا, وهي القاعدة المفقودة في السودان وهي تحتاج أيضاً لمعالجة سياسية تضمن الإطار الصالح لعملية الوفاق الوطني, والله يوفق الجميع.