تصوير: إبراهيم حسين تقول الحكمة إن المرأة صادقة في كل شيء إلا عندما تبكي، والرجل كاذب في كل شيء إلا عندما يبكي، وأمس تساقطت دموع الرجال مدرارا على خدود كادت أن تتيبس من كثرة الحزن على ظلم ذوي القربى.. في باحة منزل زعيم المؤتمر الشعبي الدكتور حسن عبد الله الترابي بضاحية المنشية كانت الأجواء أمس مشحونة بعاطفة الفرح الهستيري الذي يصل بصاحبة حد البكاء بلا توقف.. كان المنزل على موعد مع استقبال عدد من كوادر المؤتمر الشعبي طليقي السراح تواً من غياهب سجن كوبر بعدما أمضوا داخله ردحاً من الزمان وصل الى عشر سنوات، منذ العاشرة والنصف صباحاً بدأت مواكب مطلقي السراح تتوافد على منزل الشيخ الترابي، كل منهم أتى بصحبة أسرته، وفور استقرار السيارة التي تقلهم امام المنزل تنطلقت منهم التكبيرات والتهليلات والدعوات بإسقاط النظام، فيخرج من بداخل المنزل يتقدمهم الترابي لاستقبال القادمين بتهليلات وتكبيرات اشد قوة، لكن لم يلبث ان يتحول المشهد الى حزين باك، كل من يعانق أي من مطلقي السراح يدخل في نوبة بكاء يكاد لا يستطيع معها كفكفت دموعه المنهمرة بغزارة، مشهد واحد تراه يتكرر في أكثر من مكان، فلا تدري فيما البكاء، أهو فرحة بمقدم العائدين؟ ام حسرة وحزناً على من كان سبباً في تغييب هؤلاء طيلة هذه السنين عن اهلهم وذويهم وهم اخوة الامس أعداء اليوم. المشهد الباكي تمدد الى اغلب الحاضرين، فكل من رأى اثنين في حالة عناق باكٍ انسحبت عليه موجة البكاء فيسارع هو الآخر الى مغالبة دموعة وكفكفتها بأطرافه قبل ان تتساقط.. رغم أن النساء بدورهن كن باكيات، إلا أن بكاء الرجال كان اشد نشيجاً واكثر تأثيراً واصعب احتمالاً.. بدأ المشهد أمام سجن كوبر عقب خروج المفرج عنهم، إذ إنهم فور خروجهم واستنشاقهم عبير الحرية خروا الى الأرض ساجدين سجدة شكر وحمد لله، فكانت مجموعة تنتظرهم بالخارج يقودها القيادي البارز بالشعبي الناجي عبد الله أخذت تكبر وتهلل، بيد أن الشرطة منعتهم من ذلك، ليتوجه الجمع بعد ذلك الى منازليهم لاصطحاب ذويهم قبيل التوجه معهم الى منزل الدكتور الترابي بضاحية المنشية. لم يلبث أن تحول منزل الترابي الى تظاهرة تهتف بالتهليلات والتكبيرات وتردد شعارات تطالب بإسقاط الحكومة، رغم ان الحاضرين لحظتها كانوا قلة إلا ان دوي صوتهم كان قوياًَ، الكل كان يهتف بصوت واحد وقلب واحد، «جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا» وثم «عائد عائد يا أكتوبر لن ترهبنا زنازين كوبر» وأيضاً «عائدون عائدون للترابي مبايعون».. خرج الترابي لحظتها حافي القدمين لاستقبال القادمين عند الباب، وظل واقفاً لمدة يستقبلهم واحداً تلو الآخر حتى أحضروا له ما كان ينتعله بالداخل قبل خروجه، لم يكن حضور مطلقي السراح في لحظة واحدة ولكنهم أتوا تباعاً في اوقات متقاربة، إذ انهم فور خروجهم من السجن ذهبوا الى اسرهم اولاً ثم اصطحبوهم الى منزل الشيخ الزعيم، وسرعان ما امتلأ المنزل بالقادمين رجالاً ونساءً فضاق بهم المكان. بدأ جميع مطلقي السراح بصحة جيدة ومعنويات عالية حتى انهم يحاولون جاهدين في مساعدة الباكين كفكفت دموعهم بكلمات وعبارات لم تزد الباكين إلا بكاءً، لكنهم كانوا يتحركون وسط الجمع بخفة ورشاقة بائنة، بدأ خالد عثمان المكنى ب»عصفور الجنة» الذي القى الخطبة نيابة عن رفقاء سجنه اكثر ثباتاً وثقة واطمئناناً فيما يقول، قال إن السجن لم يزدهم إلا قوة واصراراً وعزيمة على مواصلة النضال في ذات المعاني التي من أجلها دخلنا السجن، واستدرك قولاً إبان تغيبه ورفقاءه عما يجري في الساحة حينما قال «عرفنا أن الخطة القادمة للقوى السياسية هي العمل على اسقاط هذا النظام، وتأسى خالد عثمان علي حال السودان الراهن وقال إنهم دخلوا الى السجن وتركوا السودان موحداً لكنهم خرجوا فوجدوه منقسماً الى اثنين والأزمات تحدق به في كل مكان ، في دارفور وكردفان والنيل الازرق وداخل الخرطوم، وتابع «لكن إن شاء الله سوف نعمل جاهدين لازالة هذا الظلم» ثم سدت العبرات حلقه حينما اتى على ذكر اخون لهم تركوهم في غياهب السجون من خلفهم، وقال «إن الفرحة منقوصة، خرجنا وتركنا خلفنا رجالاً صامدين صابرين لم ينهزموا ولن ينحنوا، تركناهم فودعونا بدموع الفرح والحزن، والله إنا لفراقهم لمحزونون» ولم ينسَ ان يذكر معتقليهم السياسيين كإبراهيم السنوسي وعلي شمار، واعداً بمواصلة المسير عقب خروجهم، ومضى يقول «نقول لإخواننا في الأمانة العامة وعلى رأسهم اخونا وشيخنا وحبنا في الله الترابي، والله لو خرجت بنا الآن وسرت الى إسقاط هذا النظام لسرنا معك ولما تخلف احداً منا» واعلن ان السودان موعود بصيف قادم اسوة بالربيع العربي الذي حل ببعض البلدان. كالعادة بدأ الدكتور الترابي حديثه باسماً ساخراً في اغلب كلماته التي يطلقها قاصداً بها النظام الحاكم، وقد جعل محور حديثه في مقارنته لحالة من خرجوا من السجن بحالة يوسف عليه السلام إذ غدر به اخوته والقوا به في غياهب الجب، فالترابي يرى ان اخوانهم قد فعلوا بهم مثلما فعلوه اخوة يوسف، ويقول «هؤلاء الاخوة خرجوا الآن من معهد يوسف عليه السلام الذي دخله بريئاً بالطبع، لكن كان السجن احب اليه من ان يستكين الى ارهابهم» لكنه مضى ساخراً من بعض الذين فارقوا طريق الشعبي ولحقوا بالمؤتمر الوطني «وآخرون بالطبع ركعوا وركنوا عن هذا الطريق كما تعلمون، كلما شق عليهم الطريق وبعدت بينهم الشقة ركعوا» وامدتح الترابي من وقف على نهجه ثابتاً صابراً لم يزدد إلا ديناً وتمسكاً، وتابع «مثلما القي بيوسف في البئر من قبل اخوته الذين خانوه، كذلك اخواننا كانوا يلقون بنا الي السجون تباعاً، لكن الهق ينغذنا من ذلك» واشار الترابي الى ان السجن احياناً يخلق شيئاً من العزة فقدر الله ان يكون يوسف نبياً من بعد ذلك، واردف «والله يهلك القوم الظالمين، ما كانوا ليؤمنوا لأن الفتنة اخذتهم وهو نهج القوم المجرمين»، ومضى الترابي مذكراً من خرجوا الى الحياة بعد سنين عجاف قضوها داخل السجن ان ما ينتظرهم في هذه الحياة لهو اشق مما لاقوه في السجون. وقال لهم إنكم في زمان كله مشقات وابتلاءات، ودعاهم الى ابطال الباطل اولاً ومن ثم العمل على اقامة الحق، لكنه نبه الى ان الاخير اكثر مشقة من الاول، وزاد «اقامة الحق هي اشق على الناس من ابطال الباطل» لافتاً الى ان الناس يرهبون السجون من الداخل لكنها لن تكن كذلك فبها منافع لمن يدخلها، واستدل ممازحاً بالخارجين لتوهم وقد بدأوا في صحة جيدة قائلاً «هؤلاء قد خرجوا وازدادوا علماً، واوزان اجسادهم قد زادت، واستدرك «لكن اوزان الروح والعقل والدين قد ازدادت اكثر» وقال إن السجون خير للتعلم من الجامعات والمعاهد، وكان وعثمان خالد اكد في كلمته انهم خرجوا حافظين للقرءان وتفاسيره بجانب تعلمهم اللغات الإنجليزية والفرنسية والالمانية علاوة على اطلاعهم في الادب والجغرافيا والتاريخ. وقال الترابي إن مطلقي السراح كأنما قد ابتعثوا الى مجالات علم وعبادة، وقال مخاطباً اسرهم ان قضيتهم واحدة ضد الكبت والإرهاب، وقال انه قبل أيام جاءه كل القادة السياسيون لم يتخلف منهم سوى القليل حسب قوله يريدون تبني قضية المعتقلين واخذوها كأزمة حرية وازمة في العدالة والمعاش، ودعا المواطنين الى التنادي والاستعداد لهبة شعبية كالتي حدثت من قبل، وترد السلطة الى الشعب ليختار بإرادته وشواره من يحكمه، ويعود اليه المال العام لا ان يحتكر في أيدي زمرة قليلة احتكرت المال العام ففتنهم حسب قوله، وأكد أن البلاد تكاد تتمزق وأردف: «نخشى أن تصيبها فوضى وخراب ويدخل في دوامة صراع ينشغل بها الكل فتتعطل طاقات الإنتاج بعدما تتحول الى أدوات حرب تسفك فيها الدماء وتُزهق الأرواح. وعقب انتهاء مراسم الفرحة بالمنشية توجه المفرج عنهم بصحبة أسرهم صوب الثورة حيث منزل القيادي يسن عمر الإمام، لتدركهم صلاة الجمعة عنده فأدوا الفريضة معه.