فور الانتهاء من أداء شعائر صلاة الجمعة، توجهنا صوب ضاحية الفردوس جنوبي الخرطوم، قاصدين منزل الزعيم المناضل والمفكر السوداني الراحل محمد إبراهيم نقد سكرتير عام الحزب الشيوعي السوداني الذي وافته المنية مساء الخميس الماضي بالعاصمة البريطانية لندن بعد صراع مع المرض عن عمر يناهز 82 عاماً، وفور وصولنا إلى سرادق العزاء الضخم، المطل على شارع الستين حيث كانت الساعة حوالي الثالثة ظهراً، وجدنا الحشود الهائلة والغفيرة من البشر، وهي تملأ جنبات السرادق، فقد كان الحزن يخيم على المكان، والدمع يرتسم على وجوه الجميع، يبدو وكأنهم محتدشون من أجل أن يطل عليهم الزعيم نقد بواحدة من خطبه السياسية من حيث الحشد الجماهيري الغفير، ولكن هذه المرة أتوا محتشدين ومودعين والدموع ترتسم على وجههم حزناً على فقيد الوطن، والصورة التي تبدو في سرادق العزاء توضح أن الراحل يعد فقداً للسودان بأثره، وليس فقداً لأهل اليسار وحدهم، فقد توافدت جموع المعزيين من كل صوب وحدب، فقد ضمت الوفود الهائلة والغفيرة، أهل السودان بمختلف انتماءاتهم السياسية، على المستويين الشعبي والرسمي، فقد كان في مقدمة هذه الحشود النائب الأول لرئيس الجمهورية علي عثمان محمد طه ووالي ولاية الخرطوم الدكتور عبد الرحمن الخضر، ومن الساسيين الذين شكلوا حضروا أيضاً الأمين السياسي لحزب المؤتمر الشعبي الدكتور كمال عمر والدكتور منصور خالد ولفيف من أهل السياسة والفكر. وبالرغم من أن سرادق العزاء تم نصبه على ميدان فسيح إلا أنه ضاق بجموع المعزين، ووسط هذه الأعداد الهائلة من البشر، (الأحداث) استطلعت بعضاً من الذين كانوا حضوراً، فلم تفلح في جميع محاولاتها سواء أن كان بسبب الإزدحام أو منعها من الحديث مع المراد استطلاعهم بواسطة الحرس الخاص بهم، إلا في ثلاث محاولات فقط كانت ناجحة، فكانت أولى محاولاتنا التي لم يحالفها النجاح مع النائب الأول لرئيس الجمهورية الأستاذ علي عثمان محمد طه والذي منعنا حرسه الخاص من الحديث معه وبعد أن فشلت المحاولة مع النائب الأول اتجهنا مباشرة صوب والي الخرطوم الدكتور عبد الرحمن الخضر والذي ابتدر حديثه ل(الأحداث) قائلاً: الموت واحد طبعاً، والموت حق، والموت مكتوب علينا جميعاً، نسأل الله سبحانة وتعالى أن يتولى الفقيد بالرحمة الواسعة، مضيفاً أن الزعيم نقد كان وحداً من الأفذاذ الذين وضعوا بصماتهم في السياسة السودانية سواء اختلفنا معه أو إتفقنا معه، لافتاً إلى أنه كان رمزاً، تميز بحسن الخلق وتميز كذلك بعفة اللسان، مشيراً إلى أنه كان سودانياً محضاً، قائلاً) إن الفقيد له بصمات يمكن أن تلعب دوراً إن شاء الله تعالى إذا تشبث بها السودانيون جميعاً في مقبل الأيام، لتجمع بين الأشتات المختلفة في عالم السياسة السودانية ختاماً حديثة بالترحم على روح الفقيد قائلاً: نسأل الله سبحانه وتعالى أن يشمله بواسع رحمته، ونحن في طريقنا إلى بداية السرادق حيث يجلس الدكتور منصور خالد التقينا بالقيادي في الحزب الشيوعي السوداني الدكتور الشفيع خضر والذي وجدناه والحزن يخيم على ملامحه ويبدو جلياً في عيونه التي تكاد تكون مدمعة، حاولنا أخذ بعض الكلمات منه، فكان هذا ما خرجنا به حيث ابتدر حديثه ل الأحداث) قائلاً: الزعيم نقد كان هرماً في الوطنية، وفي الإنحياز لمصالح الناس، وخاصة البسطاء والكادحين، وكان نقد رجلاً سخّر كل حياته من أجل الوطن ومن أجل الشعب. وأضاف بأنه لم يكن يهتم بكل ملذات الحياة ولم يكن يدخرها وبوسعه أن يضحي بكل ما يتمسك به الناس من أجل الوطن، مشيراً إلى أنه لعب دوراً كبيراً في الحركة السياسية السودانية من الناحية الحركية ومن الناحية التنظيمية ومن الناحية الفكرية والثقافية، وقال الشفيع: قامة مثل الزعيم نقد يصعب جداً تعويضها، لكنه أرسى أساساً متيناً يمكن للناس أن يمشوا عليه، وهو نفس المشوار الذي مضى فيه الشهداء من قبله، لافتاً إلى أن إذا كان هنالك شيء يجب أن يفعلوه تخليداً لروح الزعيم نقد أن يتمسكوا بالمنهج والمبدأ الذي وضعه الرفيق الراحل، وعندما وجهنا له سؤالاً بخصوص من سيخلف نقد في زعامة الحزب أوضح لنا بأن هذا حديث سابق لأوانه. بعد ذلك مضينا في طريقنا نحو الدكتور منصور خالد والذي التحقنا به بعد هرولة فوجدناه على أعتاب العربة التي سيمتطيها، حاولنا أن نأخذ منه بعض الإفادات إلا أن المشهد السابق مع نائب رئيس الجمهورية تكرر معنا أيضاً في هذه المرة ومنعنا الحرس الخاص به من الحديث إليه، واستمعت (الإحداث) أيضاً إلى إفادات كمال عمر الأمين السياسي لحزب المؤتمر الشعبي والذي تحدث لنا قائلاً نقد فقد بكل ما تحمل هذه الكلمة من معانٍ، مبيناً أنه فقد كبير للساحة السياسية السودانية، لافتاً إلى أنه يمثل تاريخ السودان السياسي وحاضره بكل ما يحمل من معانٍ، واستطاع أن يحتل مركزاً متقدماً جداً جداً في نفوس السياسيين من خلال طرحه الجريء لقضايا الحرية والديمقراطية والفقراء، مشيراً إلى أنه لعب دوراً كبيراً في تذويب الخلاف التاريخي ما بين اليسار والإسلام هو وصديقه في زمن الدراسة الشيخ حسن الترابي، مردفاً أنهما إستطاعا أن ينقلا الصراع الإيدلوجي، مؤكداً أن نقد يمثل واحداً من المؤسسين لتحالف قوي الإجماع الوطني كما أنه احد متبنيي فكرة اسقاط النظام هذه الفكرة التي ستظل _على حد تعبيره_ في حدقات العيون، مبيناً أن أمنياته كانت في أن يرى السودان قد تحول إلى الديمقراطية، مشيراً إلى أن لديه تجربة خاصة مع الزعيم الراحل تتجلي فيها الإنسانية العميقة جداً وهي واحدة من الموروثات الإنسانية والسودانية العميقة، لاًفتاً إلى روح الفكاهة والدعابة التي يتمتع بها الراحل.