في اعتقادي أن عملية التجذير المعرفي للأفكار الفلسفية وصلت الى مستوى عال لها بسؤال الحداثة, وبعض النظر عما يقوله الكثيرون أن منجز الحداثة هو منجز صناعي أدى الى قتل الروح السمحة في الإنسان, يظل كون باب الأسئلة مفتوحاً لنقاش الحداثة وتجاربها والرد عليها وتمحيص تجربة الإنسان معها باباً عظيماً يُفضي الى إحساس بالرضى عن الإمكانيات البشرية والقدرة على إنتاج خطابات موازية الى خطاب العنف والفوضى السياسيين, الشيء الذي يخلق رصيداً روحياً يترجم في المنتوج الأدبي والفني والسياسي عبر الوسائل المناهضة لعنف الخطاب الليبرالي الناتج عن تهاون الحداثة أمام الرغبات البشرية المتألفة على الطمع, تعرَّف الحداثة بأنها الخطاب الذي أنتج في القرن التاسع عشر كخطاب ليبرالي وتقدمي خارج من مرجل الصراعات الاجتماعية والاقتصادية التي أنتجتها المجتمعات الأوربية من أجل توفيق أوضاعها الاجتماعية والروحية في شأن التعامل مع الحياة بعد ظهور النتائج المثلى للعالم الصناعي وتراكم فائض القيمة محدثاً تغييراً جوهرياً في شكل علاقات الإنتاج الشيء الذي غير من الخطابات المتجاورة والمتصارعة في ديمومة الحياة اليومية في أوربا آنذاك, بذلك بدأت أوربا في قراءة تأريخها وفلسفتها وفكرها وانقطعت من وشائج القومية التي كانت تربطها بالجنس الأوربي القديم مقابل ظهور الخطابات الفئوية والطبقية العامة التي عملت على إحداث نقلة إنسانية في الرؤى تطلبت النظر الى النص الديني كنص مقيد فكانت العلمانية الذراع الكبرى للحداثة في المجمعات الغربية. عرفت مجتمعاتنا الحداثة كما أعتقد ليس كما يقول الكثيرون بالاستعمار, بل إن فترة التضعضع عند حكم المماليك شهد بروز الأسئلة الحديثة في الثقافة الإسلامية نتيجة للتأثر بالخطاب السياسي الليبرالي الذي أنتجته أوربا, وكانت فترة الأتراك وبعد وصول الموظفين الأوربيين في عملية نقل السلطة التي يفرضها تغيير موازيين القوى ورغبة القوى الأوربية في تكوين أسواق لها في العالم مما يتطلب الانتشار. كل ذلك شهد مع عملية نقل المعرفة, وتشترط المعرفة النصية الأكاديمية فضاءات معرفية هي من لدن أسئلة الفلسفة وعلم الاجتماع وعلوم اللغة والأنثروبولوجيا كما تؤثر فيها وظيفياً بشكل كبير علوم الإدارة الأهلية والعلاقات العامة وكل ذلك يدخل في باب العلوم الإنسانية الكبير, إذ بدخول العلوم الإنسانية الى بلادنا العربية توهطت أواصر الحداثة في الجسد العربي, إلا أنها لم تجد التربة صالحة لها, الشيء الذي أنتج كثيراً من العنف الرمزي من قبل معسكر التقدميين أنفسهم, وحداه كذلك عنف سياسي وعسكري مازالت أصداء ووجود بعضه في بلادنا العربية قائما, كان من الطبيعي ألا تجد الحداثة تربتها وهي تفرض أسئلة كبيرة تخرج من إطار المألوف اليومي وتفرض قوالب وعوالم جديدة تهز القناعات والتصورات كما بدا كثيراً أن الحداثة كانت تتطلب تضحيات من مجتمعاتها الأولى، الشيء الذي ترفضه النفس البشرية, طبيعة المجتمعات العربية وبعد سنين من الحكم الإسلامي القائم على القومية الطائفية شريكة بين قومية عربية تحكمها طائفة من أسر قريش, تقوم فيها بالحكم وفرض الاثقال والولاء مقابل توفير الأمن الداخلي من إحداث التناحرات والأمن الخارجي من العدو الأوربي الذي استقام له الأمر عندما احتاج الى إنتاج أسواق له وعندما ضعفت شوكة العرب والمسلمين, تقوم الحداثة على إبدال المجتمعات الدينية بعقد اجتماعي بين الناس يتراضون عليه تكون الحاكمية فيه لمن يختاره الناس, ومن المدرك كون أن الحاكمية لله في المجتمعات العربية القديمة قد أعفى الناس كثيراً من سؤال من يحكم إذ تبقت النصوص الدينية لكي تنفذ وأصبح الحاكم مأموراً بين يدي الله, إلا أن سؤال الحداثة الذي فرض نفسه على مجتمعاتنا العربية فتح أمامه إدراك أن بالإمكان اختيار الحاكم داخل إطار الليبراليات وتكوين الأجسام السياسية تحويلاً للصراعات السياسية العربية من حروب واغتيالات وثورات مناطق طرفية الى أجسام سياسية بإمكانها التحدث عن نفسها, وشككت الحداثة في كثير من أشكال التكوين الاجتماعي في مجتمعاتنا العربية كما رفضت السكون وأنتجت الحركة التي كانت عنيفة وشهد ذلك الإنتاج رفضاً كبيراً مازالت أمواجه تدك سواحل الحداثة التي بذاتها أصبحث تتغير لتصير ذات رمل غير ثابت وهو محور مقالنا هذا. أرى أن الحداثة العربية في تاريخنا الحديث بعد سقوط الأحلام الكبيرة كان لها أن تشهد سقوط مقولاتها إلا أن قوالب لم تسقط ولم يستطع أصحاب الفكر المرتجع العودة الى القوالب القديمة وصناعة أحداث سلفية من أجل العمل بنصوص العصور القديمة فكان أن عملوا بقوالب الحداثة مضطرين للعمل في الأشكال التنظيمية والثقافية والاجتماعية وليدة العمل التقدمي الحداثوي, الشيء الذي يوضح تناقض بنية الأفكار السلفية وعدم قدرتها على صنع خطابها نفسه من داخل بنيتها ومن أسسها الفكرية, فكان الالتحام الهش بين عالم الحداثة وعالم السلف والأصولية, انبه الى ظاهرة جديدة في عالم ذلك الالتحام منذ طلائع وبوادر الربيع العربي وهي الالتفات نحو المنتج الأوربي كمصدر للمعرفة يزاوج به السلفي والأصولي بين مقولاته وبين وسائل دعوية وخطابية حديثة متنازلاً عن أسس في منهجه يفرضها فهم السابق ومرجعيته الحادة أو غيرها. التيارات الإسلامية والسلفية منها أفراداً ومجموعات أصبحوا في عملية محاولة بصناع جوهر حداثوي بين المتنج الأوربي والزخم المعرفي والفني والإبداعي المتبع مع الرغبة في إنتاج عوالم مقابلة بنفس قدرة المضاهاة. تكسرت هذه الرغبة سريعاً عند شباب اليمين الإسلامي فكان غرقهم الحالي في بحور الثقافة الغربية بعد سنين من القطيعة مما يوضح أن الحداثة العربية - وعلى امتداد عصورها - كانت حداثة تأخذ الطابع الأوربي ولا تسميه فهي إذن حداثة بلا عنوان.