وزير الصحة المكلف ووالي الخرطوم يدشنان الدفعة الرابعة لعربات الإسعاف لتغطية    البرهان يزور جامعة النيلين ويتفقد مركز الامتحانات بكلية الدراسات الاقتصادية والاجتماعية بالجامعة    إعلان خارطة الموسم الرياضي في السودان    غنوا للصحافة… وانصتوا لندائها    ترتيبات في السودان بشأن خطوة تّجاه جوبا    توضيح من نادي المريخ    حرام شرعًا.. حملة ضد جبّادات الكهرباء في كسلا    تحديث جديد من أبل لهواتف iPhone يتضمن 29 إصلاحاً أمنياً    شاهد بالفيديو.. لاعب المريخ السابق بلة جابر: (أكلت اللاعب العالمي ريبيري مع الكورة وقلت ليهو اتخارج وشك المشرط دا)    شاهد بالصورة والفيديو.. مواطن سوداني يعبر عن فرحته بالذهاب للعمل في الزراعة مع زوجته وأطفاله بالغناء على أنغام إحدى الأغنيات التراثية    شاهد بالفيديو.. بأزياء مثيرة وعلى أنغام "ولا يا ولا".. الفنانة عشة الجبل تظهر حافية القدمين في "كليب" جديد من شاطئ البحر وساخرون: (جواهر برو ماكس)    ميسي يستعد لحسم مستقبله مع إنتر ميامي    امرأة على رأس قيادة بنك الخرطوم..!!    صحة الخرطوم تبحث خطة لإعادة إعمار المرافق الصحية بالتعاون مع الهيئة الشبابية    كمين في جنوب السودان    دبابيس ودالشريف    إتحاد الكرة يكمل التحضيرات لمهرجان ختام الموسم الرياضي بالقضارف    كوليبَالِي.. "شَدولو وركب"!!    تقرير يكشف كواليس انهيار الرباعية وفشل اجتماع "إنقاذ" السودان؟    محمد عبدالقادر يكتب: بالتفصيل.. أسرار طريقة اختيار وزراء "حكومة الأمل"..    ارتفاع احتياطيات نيجيريا من النقد الأجنبي بأكثر من ملياري دولار في يوليو    وحدة الانقاذ البري بالدفاع المدني تنجح في إنتشال طفل حديث الولادة من داخل مرحاض في بالإسكان الثورة 75 بولاية الخرطوم    "تشات جي بي تي" يتلاعب بالبشر .. اجتاز اختبار "أنا لست روبوتا" بنجاح !    المصرف المركزي في الإمارات يلغي ترخيص "النهدي للصرافة"    الخرطوم تحت رحمة السلاح.. فوضى أمنية تهدد حياة المدنيين    "الحبيبة الافتراضية".. دراسة تكشف مخاطر اعتماد المراهقين على الذكاء الاصطناعي    أول أزمة بين ريال مدريد ورابطة الدوري الإسباني    أنقذ المئات.. تفاصيل "الوفاة البطولية" لضحية حفل محمد رمضان    شهادة من أهل الصندوق الأسود عن كيكل    بزشكيان يحذِّر من أزمة مياه وشيكة في إيران    لجنة أمن ولاية الخرطوم تقرر حصر وتصنيف المضبوطات تمهيداً لإعادتها لأصحابها    انتظام النوم أهم من عدد ساعاته.. دراسة تكشف المخاطر    مصانع أدوية تبدأ العمل في الخرطوم    خبر صادم في أمدرمان    اقتسام السلطة واحتساب الشعب    شاهد بالصورة والفيديو.. ماذا قالت السلطانة هدى عربي عن "الدولة"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان والممثل أحمد الجقر "يعوس" القراصة ويجهز "الملوحة" ببورتسودان وساخرون: (موهبة جديدة تضاف لقائمة مواهبك الغير موجودة)    شاهد بالفيديو.. منها صور زواجه وأخرى مع رئيس أركان الجيش.. العثور على إلبوم صور تذكارية لقائد الدعم السريع "حميدتي" داخل منزله بالخرطوم    إلى بُرمة المهدية ودقلو التيجانية وابراهيم الختمية    رحيل "رجل الظلّ" في الدراما المصرية... لطفي لبيب يودّع مسرح الحياة    بنك أمدرمان الوطني .. استئناف العمل في 80% من الفروع بالخرطوم    زيادة راس المال الاسمي لبنك امدرمان الوطني الي 50 مليار جنيه سوداني    وفاة 18 مهاجرًا وفقدان 50 بعد غرق قارب شرق ليبيا    احتجاجات لمرضى الكٌلى ببورتسودان    السيسي لترامب: ضع كل جهدك لإنهاء حرب غزة    تقرير يسلّط الضوء على تفاصيل جديدة بشأن حظر واتساب في السودان    استعانت بصورة حسناء مغربية وأدعت أنها قبطية أمدرمانية.. "منيرة مجدي" قصة فتاة سودانية خدعت نشطاء بارزين وعدد كبير من الشباب ووجدت دعم غير مسبوق ونالت شهرة واسعة    مقتل شاب ب 4 رصاصات على يد فرد من الجيش بالدويم    دقة ضوابط استخراج أو تجديد رخصة القيادة مفخرة لكل سوداني    أفريقيا ومحلها في خارطة الأمن السيبراني العالمي    الشمالية ونهر النيل أوضاع إنسانية مقلقة.. جرائم وقطوعات كهرباء وطرد نازحين    شرطة البحر الأحمر توضح ملابسات حادثة إطلاق نار أمام مستشفى عثمان دقنة ببورتسودان    السودان.. مجمّع الفقه الإسلامي ينعي"العلامة"    ترامب: "كوكاكولا" وافقت .. منذ اليوم سيصنعون مشروبهم حسب "وصفتي" !    بتوجيه من وزير الدفاع.. فريق طبي سعودي يجري عملية دقيقة لطفلة سودانية    نمط حياة يقلل من خطر الوفاة المبكرة بنسبة 40%    عَودة شريف    لماذا نستغفر 3 مرات بعد التسليم من الصلاة .. احرص عليه باستمرار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الكاتب والقاص مُنجد أحمَّد مُصطفى ل»تخوم» : رغبتي في سمو الإنسانية، هدتني إلى الكتابة
نشر في الأحداث يوم 17 - 04 - 2012

هو منجد أحمّد مصطفى، كاتب القصة المتجول بين صفحات الملاحق الثقافية في الصحف السيارة الصادرة في الخرطوم؛ «ذهول»، «زخات فوق جمجمة الأرض»، «تآكل»، «بيضاوات عالقة سهواً»، «الانزواء جنوب الجسد» وغيرها من نصوص كثيرة. تجربته الكتابية توحي بالتمرس والخبرة، وكأنه يكتبُ منذ أمد بعيد. تتنوع مواضيعه، وينتقل بسلاسة المطمئن بين خيبات يراها تفتك بالحياة؛ إذ إن الكتابة عالمه الخاص الذي يتحرر به من بؤس العالم؛ كما يقول منجد.
فاز قبل عام بالجائزة التقديرية لجائزة الطيب صالح للشباب في القصة القصيرة عن قصته «بيضاوات عالقة سهواً»، قبل أن يعود هذا العام ليحصل على الجائزة الأولى في ذات المسابقة عن قصته «نزيف الطين». نُحاول من خلال هذه الحوار مجاراة ما يدور في خلد الكاتب.
من هو منجد أحمد مصطفى، وكيف اهتدى إلى الكتابة؟
إذن؛ أنتَ – هنا - نبشتَ جرحاً دامياً، فتحتَ نوافذَ لا نهائية، حقاً أربكني هذا السؤال، ثمةَ فخاخ تتوارى هنا، أن تعرفَ ذاتكَ؛ أن تتحلل إلى جزيئات طينية وتتحول إلى تفاصيل ضئيلة؛ فيما يعني مادتك الأساس، ثم تقاتلَ بشراسة وأنتَ موبوء بلعنات العالم التي تتسرطن في تفاصيل الأشياء، لتجاوب على هذا السؤال المخاتل، تفزعني هذه الفكرة، ترعبني فكرة الوجود ذاتها، فكرة أن تكون، ناهيكَ عن ماهية الذات، ووعي الكائن بوجوده، ثم أنا كائنٌ مهملٌ بين مسامات الكون الداكن، متشظياً في أذقة رمادية، وجدتني محاصرٌ بين فوضى عارمة تُكبَّل كل شيء، كل شيء يا صديقي، كانت الأسئلة تتناسل، تتوالد كالأنيميا، كلها تركل هذه الذات المبعثرة، تتقافذ بشراهة، لايضنيها ذلك مطلقاً، فقط هي حيلة لمعرفة كنه هذا الماعون الطيني وما يقبع بالداخل، لكن هذه هي المجازفة بعينها، أن تلهث للبحث عن صياغة ترضي غرورك الوجودي وتغلق بوابة معرفة الذات وتوصدها بطريقة سمِها الأبدية. ولكن ثمة دلالات تقليدية هنا، وهي، من أنا؟ من نافذة أُخرى: أنا قادمٌ من أقصى شرق هذه الأرض/ وأقصد هنا ولاية كسلا، من جغرافيا مندسة بين طيات التاريخ البشري؛ وهي منطقة «سوق الحيارى»، هكذا الحيارى، كل ما أعرفه عني أنني أنحاز للمقهورين على امتداد الخارطة الإنسانية، أعشق صوت الأطفال وهم يغنون بأصواتهم، أبغض الحرب والوحشية، أتوسد الظل كي لا تنفيني حرارة ما حارقة، أنا فقط: منحاز كلياً لهذا الإنسان والإنسانية.
وكيف اهتدى إلى الكتابة؟
«الكتابةُ رئة»........ هكذا اعتقدتُ دائماً، لستُ متأكداً ما كنتُ سأكونه لولا هذه العادة السرية وأقصد هنا الكتابة ربما صدمتي بسواد العالم وضبابيته، والانشطارات الحياتية الناسفة، وذئبقية البشر؛ ما قادني للإصابة بالكتابة. نعم، أنا مصاب بالكتابة، كنتُ حزيناً دائماً، أحترق وأنا أشاهدَ أطفالاً منهكين؛ يرتدونَ عرياً مهلكا، مستلقينَ على الأرصفة، لا يحلمونَ مطلقاً سوى بأصوات المخابز، فقط يحلمونَ بالخبز، يحاصرني ألمٌ شاهقٌ يكاد ينسفني نهائياً، أتشظى، أحاول التماسكَ، أفكر: كيف يصارعونَ الآتي، وهل هنالك آتي؟... انظر يا صديقي، حدَّق جيداً حولكَ، لا شيء غير الحريق.
ثمة شيء آخر قادني للكتابة: القلق الوجودي، وسؤال الوجود، أبحثُ دائماً عن سر هذا الإنسان، لماذا يحارب الإنسان؟ وما الذي يقود هذا الآدمي لارتكابِ كل هذه اللعنات التي تكبل العالم؟ ولماذا نحنُ كبشر نمارس كل هذه الوحشية تجاه الكون، ولِمَ نشردَ الآخرين، لِمَ نجرد ذات ما من الحياة؟ كل هذه الأشياء يا صديقي أفقدتني شهوة الحياة، بحثتُ عن إجابات ترضي شبقي لكنني أعود وفي يدي لا شيء هائل، لا شيء، أنا فقط أبحث عن طريقة لترميم العالم، أنقب عن ميكانيزم من خلاله أعيد هندسة هذا الشرْخ بداخلي، لا أريد شيئاً من الكتابة، فقط أبحث عن كون مثالي، لا أريد حرباً، ولا أريد أن أرى أطفالاً في الأرصفة، ترهقني فكرة المايقوما، تفزعني فكرة تشريد الآدميين؛ دارفور مأزومة برمادها، ثم ها هي هجليج من بعدها، ما الذي نقوله عنهما، لا أريد شيئاً من العالم، لا أريد شيئاً فقط أريد سُمو الإنسانية، هذا بالضبط ما هداني للكتابة.
هل تعني أن الكتابة هي عزلة الكاتب، في عوالمه الخاصة؟
الكتابة ببساطة هي فعل حياة..... أو هكذا أظن.
كسلا، كيف تبدو لك؛ أعني انعكاس المنطقة في الكاتب وفي نصوصه؟
كسلا.... إحدى الفراديس، هذه الجغرافيا هي إحدى لمسات الله الجمالية المدهشة على خارطة الكرة الأرضية، لا أبالغ صدقني، أعشقها برمة تفاصيلها، أحب فيها كل شيء، الناس، الأشياء، البساطة، توتيل وهو صامدٌ يخترق الأقاصي، أصوات المياه وهي تسري ببطء بنهر القاش، السواقي الجنوبية وهي تتحرش بناظريكَ جمالياً، سوق الشمس، شارع المليون بليد، غرب القاش، aترهقني رؤيتهم وهم يصارعون الحياة، أسأل نفسي كيف سيكون مستقبل هؤلاء الأطفال المنسيين؟ حاولت أن أكتب عن هؤلاء المحترقين، أن أسمع أصواتهم خارجة من مسامات الأوراق، أريدهم هنا داخل النصوص، كلهم... كلهم أريدهم. كل شيء هناكَ مدهش يا صديقي، أتذكرُ أننا كنا مجموعة رفاق نتفق كلنا في عشق الطبيعة، نهرب من المدرسة، إلى السواقي الجنوبية والقاش، نقرأ بعض القصائد، نغني لمصطفى سيد أحمد، يرسم محمد عثمان الدود أحدنا بطريقة كاركاتيرية، ثم نضحكَ حتى الثمالة، والقاش شاهد أبدي. أنا أعتقد دائماً أن كسلا حقل خصب لاختبار من كان يظن أن له ملكة في الكتابة، ما أعنيه هنا أنكَ إذا لم تستطع الكتابة هناك فإنه من الصعوبة تحريك عاطفة الكتابة بدواخلك في ظروف أخرى، ببساطة كسلا تكتبني.
القصة القصيرة في السودان لم تجتذب أعداداً كبيرة من الكُتَّاب، مقارنة بضروب الكتابة الأُخرى، لماذا ذهبت إليها دون غيرها؟
ربما الشعر له كاريزما، مُعظم الكُتَّاب غالباً ما يبدأون تجاربهم الأولى بكتابة الشعر، هكذا كانت انطلاقتي، أشخبطُ ثمَ أحتفي بطريقة تخصني، وكأنَ الحياء حاضر بتلك التجارب الأولى، لم أطلع أحد على ذلك، خوفاً من السخرية، لكن تدهشني الآن تلكَ المرحلة، كنتُ دائماً أقفُ بعيداً من الناس، أرقبُ حركاتهم، تعجبني سريانات البساطة بفناء سوق الحيارى، أندهشُ، أحاول اقتناص لحظات أقدسها جيداً، كانت المحاولات خجولة بمقاييس اللحظة الراهنة، لكن؛ ثمةَ تحول حدث ذاتَ شتاء، كاد أن يربكَ توازن قواي العقلية، كدتُ أن أتلاشى من الدنيا، أصبحتُ وحيداً، وحيداً، لا أحدَ يستطيعَ اختراق عوالمي، لم يكن هناك شخص يحتمل هذياناتي، كانوا يسمونها كذلك، كان البياض ملاذي، أحكي، أهذي، أمزقهُ قبل أن يفكر يوماً في التحليق بعيداً، من هناك علمتُ «أن الورق هو الكائن الوحيد الذي لا يخذلَ توقعاتكَ بمجرد أنكَ أضفيتَ عليه القداسة»... كتبتُ حينها في المرحلة الثانوية «دفاتر من جهنم»، كانت محض خواطر، شخبطات؛ سرد إسقاطي للنار التي تنهشني، أعدتُ قراءتها مرةً؛ اكتشفتُ شيئاً غيّر مساري إلى القصة منذ ذلك الوقت وإلى اليوم، فاجأتني الاتجاهات القصصية داخل تلكَ الدفاتر، وذلكَ بعد أن قرأتُ مقالاً عن عناصر القصة القصيرة بإحدى الصحف ذات الأوراق الصفراء بفعل الحرارة وتأثيرات الزمن، قررتُ قراءة قصص قصيرة، لم أجد قصة واحدة آنذاك، نسبة لاستحالة الأمر في المنطقة المنسية من خرائط الجغرافيا التي أدشنُ فيها حياتي، سألتُ أستاذ اللغة العربية الأستاذ «محمد أحمد» كان رائعاً، شجعني، صفَّقَ لي حينذاك، كنتُ دائماً أشخبطُ عن الجوع، عن معاناة الناس، عن رجل ذهب إلى الحرب وفقد إحدى ساقيه، عن الموت، الفجيعة، عن كل ما كان وما لم يكن، هنا متعة القصة القصيرة.
هل تُفكر مُستقبلاً في كتابة الرواية؟
الرواية يا صديقي تحتاج إلى نفس طويل أنت تعلم ذلك جيداً، ثم إنها تحتاج لدراية ومعرفة عميقة، وقدرة عالية على التدرب والمحاولات، ثم أنها تتطلب مستوى لا بأس به من الاحترافية، وأنا الآن أتلمس الطريق، بمعنى أنني في البداية، لست شجاعاً بما يكفي للمغامرة بذلك، أتمنى أن أكتب رواية يوماً ما. أنا الآن قارئ جيد للرواية.
شغلت الأسئلة السياسية حيزاً كبيراً من مسار القصة القصيرة في السودان، إذا كنت توافق على ذلك؛ كيف ترى هذا الأمر؟
السياسة.... صمت... صمت، صمت. أفزعُ بمجرد دخول هذه المفردة مسمعي، لا أدري لماذا، ربما لأنني منذ أن كنت صغيراً أربط ما بين الموتُ والسياسة، نعم، أوافقكَ فيما ذهبتَ إليه يا صديقي، الاضطرابات التي تحدث في وطننا غالباً ما تكون نتاجاً للتصميم المزاجي لحكومتنا، ربما الأنانية والتمحور حول الذات ما يقود إلى ذلك، ثم دور الأدب هنا محاولة الإجابة على مثل هذه الأسئلة الوجودية الحائرة، وما الأدبُ، أليسَ هو الواقع ذاتهُ غير أنه يجيء موازياً!؟ في ظني؛ المواضيع التي يتناولها الأدب في مجتمع ما تعكس بطريقة أو بأُخرى أزمة الكاتب والمجتمع، وألا يكون الكاتب مغترباً من قضايا مجتمعه رغم وجوده الفيزيائي، لذا فمن الطبيعي أن تكون القصة القصيرة باعتبارها ضرباً من ضروب الكتابة الأدبية مُحمَّلةً بحشدٍ لا نهائي من الإسقاطات النفسية للكاتب والمجتمع على حد السواء، ثم إن السياسي لا ينفصل بأي حال من الأحوال عن الاجتماعي والثقافي. القصة الرمزية تحديداً هي أكثر التيارات التي تُناقش قضايا جريئة كقضايا الثورة على الأنظمة السياسية الدكتاتورية والتوتاليتارية، أنت تعلم ذلك جيداً، وقد يعود ذلكَ للكبت والسلاسل التي تجدها أقلام الكُتَّاب من النظام الحاكم، وأقصد هنا قضايا الحرية وحرية التعبير. ثمَ تخيل معي يا صديقي لو كان الشعراء والفنانون رؤساء هذه الدولة، سيكون الجمال حاضراً دونَ منازع.
أعلم أن لجنة تحكيم الجائزة اقتطعت مجتزءاً من قصتك الفائزة، ما هو تعليقك؟
نعم، حقيقيٌ ذلكَ يا صديقي، أنا أثقُ في هذه اللجنة النزيهة، تم اقتطاع جزء من نصي لكن بموافقتي، فيما بعد أدركت خطورة الجزء المقتطع، وذلك ما زاد ثقتي بأعضاء اللجنة الموقرين، أشكرهم كثيراً على ذلك.
ولكن أين هي حُرية التعبير في هذا؟
الجزء الذي تم اقتطاعه من النص هو في الحقيقة يمثل تناصاً مع آية قرآنية، لو أن ذلك لم يتم، كان سيفتح عليَّ بوابة نيران وعداوات مجانية، ربما تقتل مشروعي منذ البداية، في الواقع لم أدرك هذه الخطورة إلا لاحقاً، أعترف بأن اقتطاع ذلك المجتزأ كان في مصلحتي تماماً، ولا يمكنني أن أعتبره كبتاً لحرية التعبير، رغم ما يحدث هنا في السودان من قضايا مشابهة، ثم إن حرية التعبير تقف عندما يتعدى ذلك حدود الآخرين، بكل توجهاتهم، الدينية تحديداً، وللحقيقة أن ذات الجزء كان يفترض استئصاله من النص، وأنا لا أرى شيئاً في ذلك.
جائزة الطيب صالح للشباب في القصة القصيرة، كيف تنظر إلى تأثيرها على مسيرة الكاتب الشاب «إن جاز التعبير»؟
«كُن حذراً دائماً أن توازي فوزكَ باللاحتراف، أو لا فوزكَ بلا جدواكَ في الكتابة؛ بمعنى: لا تتعاملَ البتة مع الجائزة كشيء مقدس».... مقولة للقاص الهادي راضي.
..إذن من هُنا سأفتحَ بوابة الحكي، سأطلَ بجمجمةِ السؤال إلى هناك؛ وأعني لا وعي الكاتب ذاته، المشارِك بالضرورة في جائزة مربِكة كهذه؛ اسم من تحملهُ يزلزلَ هدوءكَ إلى لا منتهي، «جائزة الطيب صالح للشباب في القصة القصيرة»، هكذا هيَ، نزوة الرعب تحاصركَ من كل ناحية، ترتعش لهولِ الفكرة، تعلم جيداً ماذا يعني ذلك، في قرارةِ نفسكَ ستطلِق على ذلك مجازفة، أن تحمِل جائزة اسم الطيب صالح، لكنكَ تقرر الخوض في ذلك، لا مناصَ من المخاطرة بنص قصصي، لكن؛ ما الذي يحرِضكَ على ذلك؟...هُنا ستنفلق التآويل، في هذه النقطة تحديداً ستتناسل الأسئلة وتتشظى، ليسَ ثمة شيء في العالم يغويكَ للمشاركة، وما الكتابة؟.. هي الوجود بذاتهُ المحضة. «جائزة نوبل شجعتني على تعلُّم الكتابة».
غارسيا ماركيز
صمتْ.. صمتْ.. دهشة.. دهشة، يا لكثافة المعنى، ماركيز؛ هدية السماء للأرض، يفتي عندما سألهُ أحدهم بعد أن حازَ على أرفع جائزة كونية على الإطلاق، ارتأى أن حصوله على جائزة نوبل شجعهُ على تعلُّم الكتابة، بالضرورة ليسَ لتلمذة ماركيز وكلنا يعلم ذلك لكن لخطورة الكتابة ذاتها، وكأنه أراد أن يقول: لا نهاية في الكتابة؛ كما أنَ لا أحدَ عليه أن يدعي الكمال.
لذا، الفوز بجائزة ما لا يعني الكمال، ثمَ إن نصكَ الفائزَ قد لا يكونَ الأفضل، وبقراءة أخرى: هو قد يكونَ أفضلَ السيئين متحفظينَ على مفردة سيئين كما إن عدم الفوز لا يعني عكس ذلك، لكن؛ بعدَ إعلان اللجنة للتقرير النهائي ثمةَ من يفُوزْ ويتعاملَ مع ذاتهِ كنجم، لكن يتوقف بعدَ ذلك المدْ؛ ويعيش حياته كلها على هذه الأمجاد؛ ولا ينتجَ بعدَ ذلكَ شيئاً واحداً، وهذا سنسميه «الذي يجلس على التَّل ويعتقد أن الآخرين ينظرونَ إليه عالياً»، وآخرَ يبحث أصلاً عن الاعتراف بأنَ ما يفعله هو كتابة؛ لتكُن الجائزة قوة دفع خرافية بالنسبة إليه، ليسموا ويطوِرَ أدواته في الكتابة، وهذا أفضل ما ستقدمهُ الجائزة للساحة الأدبية.
في المقابل؛ من لم يفُزْ يخرج وفي سريرته أنه فاشل، لأنه أساساً اعتقدَ في جدلية الهزيمة والانتصار، نحنُ نعلَم أن بعض الكُتَّاب لا يشاركونَ في المسابقات؛ ليسَ لشيء سوى أنهم يعتقدون بامتحانية المشاركة، محاولينَ التماسكَ أمام ذواتهم بالبعد عن المسابقات، وبمعنى آخر: حيلة للهروب من الفشل، كما أنَ آخرينَ تركوا عوالمَ الكتابة فقط لأنهم شاركوا ولم يفوزوا، لكن بالنسبة لي: هذه الجائزة مسئولية، لكنها تحفزني على التطور وتعلم ما هو أفضل في الكتابة.
في قصتك «نزيف الطين» تتقافز إلينا كلمات مثل «الموت، والشراسة، والشر، وعبثية الوجود» لماذا كل هذه القتامة؟
إنه ببساطة محض نزيف لملل وجودي، إنها أزمتي، وبأدوات التحليل النفسي هي حيل دفاعية يسميها سجموند فرويد الحيل الدفاعية الإسقاطية، إنها محاولة لتعرية النفس أمام النفس، أو هي غسيل داخلي لسموم بطرق لغوية، ثمة علاقة وطيدة نسبية ما بين انشغالات الذات الكاتبة والمفردة، حيث أن المفردة هي الماعون الذي تنصب عليه الفكرة. نزيف الطين نص يحمل فكرة سوداوية ما، لذلك يؤدي بالضرورة إلى اجترار لغة موازية تستطيع أن تحمل عبء الفكرة دون أن تتمايل أو تترنح، ثم: أليس العالم في حد ذاته كافياً لإضفاء هذه القتامة؟.... ألسنا نحن الآن مشاريع لموت مجاني ونحن نشاهد الوطن يتشظى والناس يموتون بعشوائية؟.... ألا تُلاحظ أننا جثث محنطةٌ بالروح؟.
شيء كنت تتوقع أن أسالك منه....
لا شيء يا صديقي..... لكن اعطني فرصة أن أنحني أمام إحداهن هي: مودة عبد الرحمن.. التي دائماً تحرضني على الجنون.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.