أدرك القادة الصَّهَايِنَةُ منذ مائة عام - أي قبل قيام دولتهم في 1948م - الموقف المائِيَّ الحَرِج الَّذي يمكن أن يَجعل أَمْنَهُم مُهَدَّدًا، وخاصَّة مع الأهَمّيَّة القصوى التي تحتلهما الزراعة والاستيطان في الآيديولوجية الصِّهْيَوْنِيَّةِ، وكان الحلُّ في نظرهم هو ضرورة الاعتماد على الموارد المائية في البلدان المجاورة، وإذا كان هذا الأمر قد تحقَّق بقوة السلاح فيما بعد، فإنَّه في البداية كان عبارة عن مطالب يبعث بها الصهاينة إلى القوى البريطانية والأمريكية التي ستساعدهم على تأسيس دولتهم. فقد وضعت الحركة الصِّهْيَوْنِيَّةُ منذ بازل (1898م) خريطتها لدولة إسرائيل على أساس التحكُّم في مجمل المصادر الطبيعية للمياه بالمنطقة؛ بل خططت لتغيير خريطتها الطبيعية في مجاريها ومصَبَّاتها لحسابها، ليس فقط بالنسبة لمجرى نهر الأردن الرئيسيِّ؛ بل وأيضًا لمنابعه وروافده العليا (الدان، بانياس، الحاصباني)، والوسطى (اليرموك)، وشملت خريطتها المائية الليطاني في لبنان؛ بل ونهر النيل في مصر، فأرض الميعاد لدى الإسرائيليين تمتد في خِطَطِهِمُ السّرّيَّةِ من النيل إلى الفرات. وإسرائيل - التي لا تضع خِطَطَها على الورق - قد عمدت فورًا لتنفيذ إستراتيجيتها المائية من أوَّل سنة بعد تأسيس دولتها مباشرة كما سنرى. -وحين فكر هرتزل مؤسس دولة إسرائيل في إنشاء الدولة عام 1897م ربط بين المياه وبقاء هذه الدولة؛ لذا فقد حاول الحصول على وعد من السلطان عبد الحميد الثاني بهجرة اليهود إلى فلسطين، ولمَّا فَشِلَ في ذلك، اتَّجهت أنظاره إلى سَيْناءَ، وتشكلت في عام 1902م لجنة من ثمانية أعضاء يهود اتَّجهت إلى العريش لدراسة المنطقة، وفي مارس 1903م أقرَّت صلاحية شمال سيناء لاستيطان اليهود، وآنذاك لم توافق مصر ولا الدولة العثمانية ولا بريطانيا على نقل الماء إلى سيناء من النيل. -لقدِ استعان الصهاينة منذ مطلع القرن العشرين بمساندة إنجلترا والولايات المتحدة لتضمين حدود فلسطين منابع مائية لم تكن ضمن حدودها من قبل في مؤتمر فرساي بفرنسا (3 فبراير 1919م)، والذي يطلق عليه مؤتمر الصلح، تقاسم الحلفاء غنائم الحرب الأولى، كما نجح الصهاينة في اقتطاع جزء كبير من جنوب لبنان، وضَمِّهِ إلى فلسطينَ ليكون لها – أي إسرائيل – مصدرًا واحدًا على الأقل من مصادر مياه نهر الأردن الشمالية، وجزء كبير من الأراضي الواقعة على الضفة الشرقية في أعالي الأردن على امتداد الحدود الشرقية لبحيرة الحولة، وكل بحيرة طَبَرِيَّة، كل هذه المناطق ضمت إلى فلسطين؛ ليكون لإسرائيل السلطة المطلقة على نهر الأردن، كما امتدت آمال اليهود إلى تأمين منابع المياه الأخرى لنهر الأردن؛ كاليرموك والليطاني. وقد أدلى هربرت صموئيل في مؤتمر الصلح بفرساي (وكان أول مُفَوَّض سامي بريطاني في فلسطين وهو صهيوني) بتصريح جاء فيه «أن جبل الشيخ هو مصدر المياه الحقيقي لفلسطين، ولا يمكن فصله عنها دون أن يترتَّب على ذلك القضاء على حياتها الاقتصادية، لذلك يجب أن يخضع كليًّا لنا، كما يجب التوصُّل إلى اتّفاق دولي لتأمين المياه في جنوب نَهْرِ اللّيطاني». من المؤكد أن مشكلة قسمة الموارد المائية بين دول الحوض لن تظل راكدة الى الأبد وإنما ستتحرك بعنف في يوم من الأيام وقد بدأت السحب الخاصة بالأزمة تتراكم فوق سماء حوض النيل. يعني ذلك ان اتفاقية مياه حوض النيل المبرمة في العام 1929م لم تعد مقبولة اليوم من العديد من دول الحوض. هناك خلافات بين دول المنبع ودول المصب وهناك خلافات بين هذه الدولة أو تلك من دول الحوض حول كيفية استخدام المياه وكمياتها وهنالك الحديث حول الثمن الذي يجب أن يدفع مقابل الحصول على الماء. الشواهد على ذلك كثيرة منها المشروعات الاثيوبية حول السدود والموقف الكيني من اتفاقية مياه نهر النيل وهناك رغبة تنزانيا في الاستفادة من الثروة المائية بمد خطوط أنابيب للمياه من بحيرة فكتوريا لحوالي 170 كلم. كان تصريح شهير لوزير الثروة المائية التنزاني قد أثار ضجة عندما ذكر بوضوح أن اتفاقية مياه النيل الموقعة في «العهد الاستعماري بين مصر وبريطانيا» والتي تعطي مصر الحق على أن توافق أو لا توافق على أي مشروع خاص بالاستفادة من مياه النيل «لم تعد ملزمة لبلاده» وأنهم سيمضون قدماً في إقامة مشاريعهم دون استشارة مصر . هناك جانب مهم في مشكلة مياه حوض النيل وهو الذي يظهر في كتابات العديد من الكتاب والباحثين ومنهم سودانيون بأن إسرائيل هي المحرض على تلك المشاكل نسبة لعلاقاتها القوية ببعض دول الحوض الإفريقية. ولكن أولئك الكتاب ينسون أو يتناسون أن لمصر اتفاقيات رسمية موقعة مع إسرائيل وأن العلاقة بين الدولتين علاقات تمتاز بدرجة مناسبة من الجودة والجدية، إضافة لإهمالهم للعلاقات الجيدة التي تربط إسرائيل بعدد غير قليل من الدول العربية والإسلامية في العلن أو في الخفاء. في تلك الحالة اذا أرادت إسرائيل الحصول فعلاً على حصة من مياه النيل فليس هناك وسيلة أفضل من أن تفعل ذلك بالاتفاق مع مصر. لذلك من الأفضل عند الحديث عن قسمة مياه النيل بين دول الحوض والخلافات بين تلك الدول، من الافضل استبعاد العامل الإسرائيلي، على الأقل لأن اسرائيل ليست دولة من دول حوض النيل من جهة وانها مثلها مثل أي دولة أخرى لن تتوقف عن البحث عن مصالحها وتأمين حاجتها من المياه. من المناسب لدول الحوض البحث عن الكيفية المناسبة لقسمة عادلة لمياه النيل ويحق بعد ذلك لأي دولة التصرف في حصتها من المياه حسب رؤيتها الإستراتيجية للاستخدام حسب السياسات المتبعة فيها وأن تترك محاسبة كل حكومة لشعبها. الى متى تستطيع دول الحوض تهديد بعضها البعض عند نشوب أي خلاف بينها حول قسمة المياه؟ وما هي قدرتها الحقيقية على المواجهة وإعلان الحرب؟ وهل ستكون المواجهة العنيفة مجدية في حل مشكلة معقدة مثل مشكلة مياه النيل؟ من الأفضل لنا في السودان في ظل كل تلك المعطيات أن نضع رؤية قومية حول مياه النيل والتي يبدو أنها غائبة حتى اليوم ولا تشكل إجماعاً وطنياً كما هو الحال في مصر مثلا. كما يجب الوضع في الاعتبار المصير المستقبلي لقسمة مياه النيل مقروءة مع نتائج الاستفتاء حول تقرير المصير الخاص بجنوب السودان. في حالة الانفصال سيظهر عضو جديد بمطالبه .لابد من دراسة متأنية وعلمية لأبعاد المشكلة وآفاق حلولها وإيجاد الصيغة المثلى التي تمكننا من الحصول على نصيب مستحق من مياه النيل واستدامة حصتنا فيها.