بحثت في تاريخ المسرح السوداني فوجدته ذو صلة وثيق بقضايا النضال والتغيير الاجتماعي منذ فترة الاستعمار ولم تتغير نبرته عن ذلك كثيرا, فالمسرح ومنذ بعد الاستقلال أخذ على عاتقه توصيل رسالة التغيير والحداثة الى الشارع السوداني ومقتضيات المجتمع الجديد فكان الحديث فيه عن عمل المرأة وزواج الاقارب والسفر والاغتراب, إلا أن مسرحنا لم يحاول الخروج من إطار المحلية للأسئلة الكونية ولو مباشرة في كثير من نصوصه, فلا أذكر أنني عثرت على نصوص ذات قيمة في العمق الوجودي تناقش مأزق تقلبات الحياة البشرية وكون أن الإنسان يخوض في مجموعة من العواطف التي تدير حياته وتحدد مصيره وقراراته إلا في ما يقوم طلبة معهد المسرح وهي كلية المسرح حالياً من تأدية لنصوص شكسبير والذي حكى وتمظهرت فيها حالة الإنسان عند تحوله الى عالم الإقطاع وبدايات نشأة مجتعمات التجارة وتقلبات الحيوات البشرية في مصائر تفضح الضعف البشري عندما تتكالب على الفرد المصائب، ولذلك كان لشكسبير أبوة المسرح الحديث. ربما لتنازعنا دوماً في قضايا محليتنا وتحورات دولتنا الحديثة في تكونها مما جعل مناقشات قضايا الحداثة والتحديث مجاورة لقصر الوسائل, فبحثاً عن الحلول المباشرة وغير المباشرة لقضايا التنمية والوعي زاد من المساحة الثقافية المعطاه للعمل الفني المتجه لذلك دون عن الخروج من هذا الإطار الى عوالم أوسع, ولمحلية قضايانا شأن لكون دولتنا الحديثة هي عودة لدولة المهدية التي جمعت القبائل متاخمة لبرامج التحديث والمدنية ذات الشبهات الاجنبية, وغرقنا في أتون ذلك دون أن نعي أن في أوساطنا من يحملون هم الذات الإنسانية ويقدمون الكثير وبإمكانهم أن يقدمون لوحات وتعابير أجمل وأكثر روعة عن الذات الإنسانية وصراعاتها المستمرة مع قضايا النضال ضد نفسها وضد الزمن والتغيير والعواطف الجياشة والأسى والحزن, ومن هؤلاء مبدع عابر للزمان وللقارات سطر باسمه مكاناً عالياً في سماء الإبداع، يكتب باحترافية ويدين له القلم بالمطاوعة واللين, وهو كاتبنا وأديبنا عادل إبراهيم محمد خير, ربما لم يعرف عادل وهو يكتب عن قضايا المعيشة والسياسة وعرف وهو يكتب عن قضايا المرأة والنظرة اليها من كونها ذات موجودة في الكون تجب رؤيتها على جناح عال من الرقة, فكان عادل مهمازاً كبيراً يدك قلاع الفكر المتحجر أمام صورة المرأة, ويبدع في وصف أوضاعها وحيواتها المتعددة وصراعاتها المتقلبة في الحياة من أجل إثبات ذاتها, أمام الخوف والعادية والظلم والبؤس, عادل يقدم صورة للمرأة أكثر لمعاناً ويختار لشخصياتها شخصيات تتمازج بكونها طرفية في جانب آخر من الرؤية مع الشخصيات الأكثر إيجابية في النص وأيضاً تحتفظ تلك الشخصيات بكونها شخصيات حوارية تخفي داخل ذاتها تراكم بحثها عن صورة شبيهة, الحوارات في نصوص عادل إبراهيم على درجة عالية من الثقافة والتفاكر يتحاور فيها أفراد بدرجة عالية من المكاشفات من أجل إثبات الذات في عالم أكثر وضوحاً هو وضوح عادل لمن يعرفونه, النص عند عادل يعمل ليخلق بحث الذوات البشرية عن هدأتها وسكونها أمام الصراعات اليومية متضمنة صراع العادية والروتين غير الموصوفين عادة بالسلبية في زمان القبح والسوء, لنصوص كاتبنا بذلك أن تفتح الباب كبيراً أمام اسئلة الكون, واسئلة الزمان والقدرات واسئلة الروح, تحمل شخصيات عادل أرواحاً أقوى من الشكل الذي تظهر به, تبحث هذا الأرواح عن ظهورها بشكلها القوي الذي هو عندها لنفسها هو شكلها الحقيقي لكي تحقق ذاتها وتتمركز في كينونتها, بذلك النص عند كاتبنا يخرج من قضايا البحث المباشرة والنضال لقضايا الفرد التي توجد عندنا كمجاميع, النص عند عادل هو نص أخلاقي بمفهومه ترتيبه للذات البشرية وترتيب صراع الروح في سعيها للانفجار. يخرجنا النص عند عادل من روتينية اليومي والمشاهد ايضاً الى نصوص اكثر تقدمية وجرأة في تناولها، كما إنها أكثر ترابطاً إذ إن الإحالات فيها متواصلة مع اليومي المباشر عبر تفاصيل النص الكبير, مما يوضح كون العالم الآن أصبح قرية صغيرة ليس في قدرتها على التواصل ونقل المعلومات فقط إنما أيضاً في تشابه أحداثها, وتجاور معطياتها, الشخوص البشرية الآن تقابل عوالم متشابهة تصارع فيها صراعات ذات أنساق أكثر اعتيادية وتملؤها الروتينية ويبحث المرء فيها عن صراعه مع الزمن بحثاً عن تحقيق الذات عبر السعادة كما تحقيق السعادة عبر إرضاء الذات ومن هنا يعلو فينا النص عند عادل إبراهيم محمد خير ليصل بنا الى عالمه العابر للقارات المصارع لأسئلة الزمن. يبدو ذكاء عادل لاختياره موضوعة المرأة لكونها واحدة من أساسيات الصراع البشري نحو إرضاء الغرائز الجنسية والحياتية والتي يمكن أن تجمع كلها في إرضاء غريزة تكوين الذات, وبتصارع الأفراد على المرأة وبتصارع المرأة على الرجل يتضح كون الذات البشرية إنما عبارة عن رجل يحمل كاميرا ويبحث عن من يصوره, الإنسان يبحث عن ذاته في نفس اللحظة التي يسائل فيها سؤال الحياة, الإنسان كما في نصوص عادل يفرح للحظة السعادة ويحاول حبسها بكل أنانية لخوفه من الغيب والزمان القادم, يبحث عن وسية لذلك فتكون التداخل مع الذوات الأخرى بالحميمية العليا, وفي حميميته تلك يصنع ذاتها التي تخيفها فيغرق أكثر في أتونها ويبحث عن سعادة بلا ضفاف تجعله يحارب الزمن, هكذا أحاول أن أُفسر نصوص عادل إبراهيم محمد خير, وهكذا نجدها وهي أكثر ثراءً في اتخاذ الوسائل المساعدة للعمل المسرحي من موسيقى وإضاءة وديكور وغناء, أيما اصطلح على تسميته بالسينوغرافيا, كان نص عادل الأخير في مهرجان البقعة أكثر قوة في أدواته المسرحية وتماسكاً وكان لأداء محمود ميسرة ومجموعته جمال سليمان وحليمة والشابات الأخريات قوة في تحقيق الإعجاب لنص كاتب كبير بقامة أستاذنا عادل إبراهيم محمد خير.