استضاف نادي القصة السوداني، ضمن سلسلة ندواته الأسبوعية، يوم الخميس الماضي، الأستاذ الشيخ محمد الشيخ في ندوة بعنوان «التحليل الفاعلي والأدب» والشيخ محمد الشيخ هو عالم سوداني مبتكر للتحليل الفاعلي والنظرية الفيزيائية المعممة. عمل في قسم الرياضيات في جامعة سرت بليبيا. كما عمل في أكاديمية السودان الوطنية للعلوم. صدر له عن دار مدارات كتاب التحليل الفاعلي وتحديات النهضة. في هذه الندوة يتحدث عن الأدب منطلقاً من نظريته التحليل الفاعلي. مدخل يقول الشيخ في بداية الندوة: سينصب تركيزي على القضية الأساسية لنظرية الأدب، والتي تتمثل في الهُوية الإبداعية للنص الأدبي. من المعلوم أنه عبر التاريخ الطويل لتطور نظرية الأدب، حدثت تطورات لدوره ووظيفته. يرجع الناس عادة إلى أفلاطون كأول من قدم نظرية المحاكاة؛ الأدب يحاكي المحسوسات، التي بدورها هي محاكاة لعالم المثل، لذلك في نظري أن الأدب محاكاة لمحاكاة. أما أرسطو فكان يرى أن الأدب ليس محاكاة لما هو كائن، وإنما لما ينبغى أن يكون وفقاً لقانون الاحتمال. لكن بنهج الأوربيين وما ترسب عن ذلك لرؤية جديدة للكون، وما انعكس على فهم الناس للأدب، ثم ظهور الرومانسية أو التعبيرية، التي قالت: إن الأدب يعكس المشاعر والطموحات الشخصية للكاتب أكثر من كونه يعكس الواقع، نلاحظ أن المسار يتجه إلى خلق مرجعية، أو إحالة الأدب إلى مرجعية خارج النص. ثم جاءت الواقعية وأمًّنت على هذا المسار بضرورة أن يعكس الأدب الشروط الاجتماعية القائمة. ومع بداية القرن العشرين، ونتيجة لأعمال ريفاتير في علم اللغة استطاع الشكلانيين الروس تقديم نظرة جديدة للأدب مستندة على رؤية ريفاتير للعلامة، وشمولها للدال والمدلول، باعتبار أن المدلول هو الصورة الذهنية، وبالتالي فإن العلامة لا تعكس الواقع كما هو وأنما تحدد دلالاتها من خلال الموقع الذي تحتله في نسق النص المحدد. يضيف الشيخ: ساعد ذلك في ما بعد على ظهور البنيوية، والاتجاهات التي بدل أن تنهض بالنص بإحالته إلى مرجع خارجي للبحث في أدبيته وشاعريته، فصار الصراع بين تيارين، الذين ينادون بفتح النص، والآخرين الذين يقولون بإغلاقه، هذا من جهة. ومن جهة أُخرى بين الطرف الذي يريد أن يختزل النص الأدبي إلى معنى الحضور في العالم، والآخر الذي يفرغ النص في معني الحضور في العالم. هذا الاستقطاب جعل التيار التفكيكي نسبة لإدراكه بفشل البنيوية في تحقيق المعنى، ذهب في اتجاه التناص، وفتح العلامة، بمعنى تعويم الدوال وتحقيق أكبر قدر ممكن من الدلالة أو المعنى؛ لكن هذا الأخير ذهب في اتجاهات لا نهائية الدلالة، تاركاً النص ضحية لتقديرات القارئ، وعلى الرغم من أنه حاول أن يتجاوز عمليات انغلاق النص البنيوية إلى فتح النص على الأطر الاجتماعية، إلا أن هذا الانفتاح قاد إلى دلالة لا نهائية وأطاح بسلطة النص. لذلك أضحى من المهم أن نعثر على المكان الذي يجب أن نتحصل منه على الهوية الخلاقة للنص سواء أكان ذلك بفتحه أم إغلاقه. تيار الشك ظلت هذه المشكلة قائمة إلى يومنا هذا، وعلى الرغم من وجود مدارس النقد المختلفة، ظل الاستقطاب محصوراً بين إرجاع النص للواقع،وتأمل المشهد اللغوي، باعتبار أن النص في نهاية المطاف هو لغة ويجب التركيز علي اللغة داخل النص. تطرق عبد العزيز حمودة في كتابه المهم «المرآة المحدبة» إلى جانب مهم في نظرية الأدب، إذ يقول: إن هذه التحولات مرتبطة في الأساس بالتحولات المعرفية التي حدثت في فضاء الثقافة الغربية. وعزا ذلك إلى تجول وتحول النخب بين المادية التي تحاول إرجاع الوعي ومختلف مناشط الحياة إلى شروطها تارة، وتارة أخرى إلى تلك الأسس النظرية المثالية التي تحاول بدورها أن تجعل من الذات والوعي مصدرا للفاعلية السببية؛ وأضاف أنه في بعض الحالات، وبسبب فقدان الأمل في هذين التيارين، ظهر تيار الشك الذي جاء بهيوم وخلافه من فلاسفة هذا التيار. ويؤكد حمودة: أنه في حالة المد المادي تسود الواقعية، أما في حالات المد المثالي فإن نظريات التعبير والرومانسية وغيرها من هذا الاتجاه هي التي تغلب. بنيات الوعي الثلاث يقول الشيخ محمد الشيخ: إذا أردنا أن نُعالج هذا المشكل، وأن نبحث في الهوية الخلاقة للنص الأدبي دون أن نختذله في الواقع المعيش، أو المشهد اللغوي، نحتاج إلى وجهة نظر جديدة، أعتقد أن منهج التحليل الفاعلي يُمكن أن يُساعد في هذا الاتجاه. ما هو التحليل الفاعلي؟ من ناحية التنظير، الفاعلية نظرية في طبيعة الإنسان، ويقصد بها من الناحية الفلسفية «التجاوز» بمعنى أن المنظومة تشتمل على مصادر فعاليتها السبيبة في داخلها، وهذا يختلف عن القصور، والوعي به. ففي حالة وعي القصور تكون المنظومة قاصرة لذاتها وغير قادرة على تبديل حالتها ما لم تؤثر عليها قوى خارجية؛ هذا ما ذهب إليه المعنى الفلسفي لقانون نيوتن الأول للحركة؛ أما نحن فإنما نقابل وعي الفاعلية بوعي القصور، إذ إنه في حالة وعي الفاعلية فإن مصادر فعالية المنظومة السببية في داخلها. ومن ناحية الإصطلاح، فإن الفاعلية تعني الإنتاج والإغناء والإبداع الشامل للحياة. ومن الأشياء المهمة للغاية أن الربط الذي قمت به بين الفيزياء والبيولوجيا، أشرت إلى أن الفاعلية ليست هي خاصية مقتصرة على الإنسان، بل هي خاصية تُمثل جوهر ظاهرة الحياة منذ نشأتها إلى يومنا هذا. يستطرد الشيخ: وإذا كنا نتحدث عن أن الفاعلية نظرية حول طبيعة الإنسان، يتحتم علينا أن نشير إلى أن لديها مستويات عدة. من الناحية المنهجية، فإن التحليل الفاعلي يبحث في فاعلية الأفراد والمجتمعات والنصوص، من خلال البحث في ديناميكة نمو وتفاعل بنيات العقل عبر مواجهته للتحديات الحضارية والاجتماعية؛ وهذه ما يقودنا إلى التساؤل حول ماذا نقصد ببنيات العقل، أو بنيات الفاعلية؟ يقول الشيخ محمد الشيخ: نتيجة لتطور الدماغ البشري، وظهور وانبثاق الوعي؛ إذ إن هذا الأخير لم ينشأ اعتباطاً، إنما دعماً للاحتياجات الأساسية للبقاء، وأعني التكاثر وإنتاج الخيرات المادية والإبداع والإيثار، وبناء على ذلك تشكلت بنية تناسلية يعي الإنسان ذاته من خلالها ذاته ككائن تناسلي، وثانية مادية أو برجوازية يعي الإنسان ذاته من خلالها ككائن وظيفته جمع واستحواذ الخيرات المادية، وثالثة خلاقة يعمل من خلالها الإنسان على الإبداع والعطاء والمحبة الشاملة؛ وعقل كل إنسان مركًّب من هذه ثلاث البنيات ، وسوف يتضح لنا أن هذه التراكيب تسمح باستقصاء الكثير من المُعضلات سواء أكان ذلك على مستوى الحراك التاريخي للمجتمعات، أم ديناميكة الوعي والثقافة إلى أخر القائمة. يضيف الشيخ محمد الشيخ: كل بنية من هذه البنى لديها مرجيعتها المعرفية والقيمية وتمتلك مفهوماً لذاتها، وهي تحمل مجتمة أفراد المجتمع لتحقيق المهام الموكّلة إليهم. عندما تسود البنية التناسلية فإنها تبدأ في توظيف أفراد المجتمع لإنجاب أكبر عدد من الأطفال، وحينما تسير هذه المساءلة بوتيرة متعاجلة، تتزايد أعداد الوفيات فيتهدد المجتمع بالانقراض، وحينما تكون القوة البدنية والعضلية للرجال والنساء هي صمام الأمن الاجتماعي والغذائي، تحت هذه الشروط تسود بنية الوعي التناسلي؛ موظفة بذلك مفاهيم القيم لتنشط مفاهيم المجتمع لتحقيق هذه المهام؛ كذلك تتوفر ذات المكونات في بنيتي الوعي البرجوازية والخلاق؛ ما يهم أن لكل إنسان هذه ثلاث البنى ، لكن الشروط الاجتماعية التاريخية الكائنة في المجتمع تفرض أن تسود واحدة من هذه البُنى دون غيرها؛ وتندمج فيها أغلبية أفراد المجتمع؛ لكن هذا لا يعني غياب أفراد يحملون بِنية مختلفة. الانفلات من البنية السائدة له شروطه، إذا كانت البنية ناجحة نجاحاً تاماً في تحقيق الأمن والاستقرار لأفراد المجتمع، يكون الانفلات شبه مستحيل؛ لكن لحسن الحظ ليس هناك جهة في الدنيا تستطيع تحقيق الأمن والاستقرار لأفراد المجتمع. على سبيل المثال، إذا فقد الطفل أمه أو أباه في المجتمع التناسليي، يكون عرضة لأن يواجه العالم لوحده، لأن رعاية الأقارب غير كافية بالنسبة له. الفقر، الإعاقة، كلها مشكلات يمكن أن تتسبب في تغيير مسار بنيوي، ربما يقود هذا الانفلات صاحبه إلى بنية وعي خلاقة إذا دافع عن مشروعه،أما إذا انفلت من غير مشروع ففي هذه الحالة سيفقد البنية القديمة دون أن يكتسب أخرى بديلة، لذلك يتحول إلى شخص لا منتمٍ، يشعر بالعجز، وفقدان الهوية، واللا معنى، واللا جدوى، أعني سمات الشخصية الكاركاتيرية. نحو الفاعلية يقول الشيخ محمد الشيخ: على هذا النحو؛ إذا استطعنا بناء الفاعلية، أعني بناء منظومة قادرة على بناء ذاتها، عبر التحقيق الذاتي، سنتوصل إلى مراقبة بنيات العقل،مما يمكننا من الإجابة عن أسئلة ظلت مستعصية في فضاء الثقافة الغربية، الذي يتمثل في مجموع التحولات المعرفية التي حدثت له؛ هذا النمط الذي ساد فضاء الثقافة الغربية هو نتيجة لما أسميه البديهية اللا مفكر فيها، وهذا بافتراض أن العقل البشري مكون من بنية واحدة، والتثبيت بصحة هذا الافتراض فإن نسق التحولات في فضاء ثقافي سيقود إما إلى المثالية وإما المادية أو الشك والانطواء. أما إذا ثبتنا أن العقل البشري مكون من ثلاث بنيات، سوف تكون المعرفة نتاج تركيب العقل مع الوجود، وبهذا الطريقة يكون العقل عند تبني الفاعلية انعكاس لشروط الحياة المادية، ومتجاوزاً لها وقادرا على الإبداعية في حال إرتقاء الفاعلية. ما أريد قوله إن العقل مركب بطريقة تسمح لنا بتجاوز البديهية اللا مفكر فيها في فضاء الثقافة الغربية. التحليل الفاعلي والأدب يضيف الشيخ: حتى يكون لدينا نظرية في الأدب مبنية على المقدمات السابقة حول التحليل الفاعلي، سنعتمد أولاً على ما يُعرف بآلية التعقل؛ قدًّم وجهة نظر قدمها العالم لأكاني؛ إذ قال إن بنية اللغة متماهية مع بنية اللاوعي، إلا أنني أقول في التحليل الفاعلي: إن بنية العقل متماهية مع بنية اللغة؛ كيف الوصل إلى ذلك؟ ساعتمد على توليد الدلالة من خلال ما يسميه تشوميسكي النحو التوليدي للجملة؛ وهو نظام نحوي يشتق الجملة بالجملة العميقة، ثم تدخل عليها المفردات من المعجم حتى تتشكل البنية السطحية للجملة. ومن الملاحظ أن أتباع تشوميسكي احتفظوا بذات النموذج، وهو اشتقاق الجملة بالدلالة التوليدية بدلاً عن النحو التوليدي. يقول الشيخ محمد الشيخ: أريد أن أتعامل مع الجملة بتغيير هذا النموذج، لأن إنتاج الجملة هو إنتاج للنظام، وهو نموذج تتشابه فيه آليات عمل العقل البشري، من الضروري وجود مدخلات، ومكون نظمي أساسه المنطق لا النحو، ومكون دلالي، وأهم من ذلك وجود مخرجات، والمخرجات هي بنية الوعي السطحية، لكنها تُغذي غذاء مرتداً إلى معطيات الخبرة الذاتية الناتجة من فعل الإنسان على ذاته والعلى الموضوعات الخارجية. وبهذا يمكننا أن نقول إن بنية العقل متماهية مع بنية اللغة. يستطرد الشيخ: هنالك رافد ثانٍ يسمح لنا بالانتقال عبر المقدمات السابقة إلى النص الأدبي؛ وهو أن كل النصوص إبداعية كانت أم غير ذلك، حقول للوعي، إذن يبقى فقط الاختلاف ما بين النص الفلسفي والأدبي، إذ إن في حالة النص الفلسفي أو العلمي يعبر عن انقباض سياقات الوعي المرتبطة بالواقع، أما النص الأدبي فهو انسياق نحو انفلاتات الوعي، أقصد تجاوز المألوف والواقع، وهذا يعني أن عقلانية الواقع لا تستنفذ عقلانية الوعي؛ وقد تعلمنا من فرويد أنه حتى اللاوعي هو شكل من أشكال الوعي. يقول الشيخ: بمهذه المعطيات يمكننا أن نلج إلى النص الأدبي، ونعرفه على أنه بنية فاعلية لغوية تخيلية، ليكن هنالك فضاء واقعي نتعامل معه ببنية الوعي، وفي ذات الوقت لدينا فضاء آخر نتعامل معه من خلال اللغة. لكن ما مردود هذا على مشكلات الهوية الإبداعية للنص الأدبي ونظام النقد؟ من الملاحظ أن المدارس الواقعية ماثلت بين نظام النقد ومركز الإحالة الخارجي، أما المدارس الشكلانية مآثلت بين نظام النقد واللغة؛ إلا أنني أقول أن نظام النقد هو عبارة عن علاقات الفاعلية كما تتجلى من خلال اللغة نفسها، بمعنى أن نظام اللغة للنص الأدبي هو في ذات الوقت نظام لعلاقات الفاعلية؛ وهي وجهة نظر متقدمة على تلك التي قال بها مايكين باختين، بأن النظام اللغوي هو نظام للمفرادات والمُعاش. يضيف الشيخ: إن جميع بنى الوعي التي تحدثنا عنها سابقاً تكون أحياناً في حالة تآذر، إذا كانت البنية ناجحة، توظف بقية البنيات لتحقيق اغراضها، لكن في هذه الحالة تتحول الحياة من وسيلة إلى غاية؛ وهذا في حال كانت البنية التناسلية مسيطرة. يستطرد: وفي أحيان أخرى تتصارع هذه البنى في ما بينها وتحاول ترويض بعضها وفق الصراعات التي تصيب المجتمع كما في حالة الزين في رواية «عرس الزين» للطيب صالح. خاتمة في نهاية الندوة تحدث الشيخ عن مستويات علاقات الفاعلية، تعدد وتنوع التشكيلات الدلالية في النقد، وفي الشحن العاطفية، وضرورة فاعلية دراسة جملة الحدث، وطبيعة صراعها. وعن ضرورة البحث في فاعلية الشخصية. وعن كيف تُنمى الفاعلية، وضرورة تجاوز البنية السائدة لمصلحة النص الأدبي، والانفلات منها لتحقيق أهدافه، وصولاً إلى البنية الخلاقة. الندوة أكثر إثارة بكثير عما هي عليه على الورق، إذ شهدت مداخلات عدة أغنت النقاش، وكانت الردود بمثابة فيض آخر.