أعود إلى حديث قديم عن جدوى المعايير الدولية مثل مؤشر الشفافية أو الفساد أو الدول الآيلة للسقوط في فهمنا لحقائق بلدنا وإمكانيات التغيير فيه. فقد أزعجني أن بعض قادة الرأي عندنا يحتفل بهذه المؤشرات حال صدورها. ولما كان السودان «الطيش» أو تالية أصبحت هذه المؤشرات كل معرفتهم عن بؤس الإنقاذ الذي يعارضونه. ولم يكن نقدي لتلك المؤشرات استخفافاً بما توصلت إليه فوق شغل علمي مر. حاشا. بل استنكرت أن تكتفي صفوة المعارضة بها ولا تستقل بتحليل إحصائي وسياسي واجتماعي لأوضاع مجتمعها. فعطلت الاجتهاد الذاتي حتى أنك لو سألت الماركسي منا عن صورة الصراع الطبقي اليوم عندنا لغمغم ب»الرأسمالية الطفيلية» ثم تحول إلى تحليل ثقافي محض عن العرب والزرقة والهوس الديني. أعود لموضوع المؤشرات بعد أن شككت في نفعها مجلة «فورن بولسي» (شهر يوليو واغسطس 2011م) التي هي شريك في إصدار مؤشر الدول الآيلة للانهيار. وقد نبهني إلى خطر هذه المجلة الأستاذ فوزي بشري. كان حكى لي قبل أكثر من شهر عن آخر أعدادها الذي ترجم لأكثر الوجوه خطراً في فكرنا المعاصر. ثم أهدانى نسخة منه. وكان سبق أن أهداني كتاباً عن إفريقيا. ولا يستغرب من هذا شغفه بالكتاب أن يرقى المراقي ويتلو علينا أسفار النبأ من فوق معرفة وإحاطة ومهنية. نعود إلى المجلة والمؤشر. قيمت المجلة المؤشر في سياق خيبة أمريكية عامة عن مفاجأة الربيع العربي لهم. فقد شكا سناتور أمريكي عن جهلهم، أو استجهالهم، بانتفاضة العرب لأن مخابراتهم لم تزودهم بغير ما هو مبذول في الصحف. ورد عليه رجل مخابرات بقوله: أتريدوننا أن نكون منجمين نستطلع الغيب؟ وقالت المجلة إن سؤال السناتور نفسه مما يمكن أن نوجهه لمؤشر الدول الآيلة للانهيار الذي صدر في 2011م. فالثورة العربية الأولى التي هدمت ملك بن علي قامت في تونس. وهي التي جاءت معززة في المرتبة 108 من جملة 177 دولة في المؤشر. وجاءت البحرين، وهي من بلاد الربيع العربي، في المرتبة 129. واحتلت ليبيا المركز رقم 111 في المؤشر الذي سبق ثورتها. وللمقارنة كان السودان رقم 3 طيشاً عاش عند ربه. المؤشر فحص لأمراض البلاد السياسية يضع الدول في ترتيب معتبراً أداءها في جملة فعاليات مثل التعليم وتدفق اللاجئين منها وغيرها. واعترفت المجلة بأن أفضل البيانات التي ينبني عليها المؤشر قد تضلل. فتونس هي أكثر دول العرب تطوراً بطبقة وسطى حية وتجارة رابحة مع أوربا، وأفضل نظم التعليم بالمنطقة. ولكن البيانات القاطعة تلك قد لا تلقي بالاً لجوانب تغلي بالاستياء بين مواطني البلد مثل قسوة الشرطة والأمن وبعد الشقة في دخول الناس، أو فشل الدولة في الوفاء بتوقعات الشباب: القطاع الأغزر بين السكان. وبالطبع لا يمكن لمؤشر أن يتكهن بالقدوة في الأداء السياسي. فقد ألهمت ثورة تونس ما بعدها. فكثير من الدول تسقط في امتحان المؤشر ولكن تسلم من جائحة الثورة. وأعيد عليكم هذه الحكاية القديمة لتوضيح ما يسقطه المؤشر وهو لب الموضوع. فصب شاب الماء البارد على تفاؤلي بالوطن خلال حملتي الانتخابية بذكر أحد المؤشرات التي قالت إن السودان إلى غروب. فسألته إن كان مؤشره قد ذكر أننا قمنا بثورتين عشقاً لهذا السودان الفاشل. ويحضرني بالمناسبة قول أستاذنا عبد الخالق محجوب للسوفيات حين نصحوة فوق تحليل اتفق لهم أن يتبع ملة الفريق عبود. قال لهم: «إذا كنت لكم تجارة مع عبود فالله أحل البيع. أما تحليل الطبقات وما يترتب عليه فماين منو (أتركوه لنا)».