في عام 1996 في جلسة حوار في فندق الشيراتون بالقاهرة, ومع مسؤولة البرامج الثقافية في مؤسسة فورد فونديشن كريستينا ديفيد, ومدير المعهد الدراسات الأفريقي في الجامعة الأمريكية بالقاهرة, والسفير الأمريكي بالقاهرة, كان هناك حوار حول قضايا الصراع والنزاعات في أفريقيا, ثم عرّج الحدث إلى السودان. قال مدير المعهد إن السودان يشهد تغييرا كبيرا في بنيته السياسية, وهذا التغيير سوف لن يكون لصالح القوى التقليدية, وهناك قوى جديدة بدأت تظهر وتفرض وجودها، وقال هي الحركة الشعبية وقوات التحالف السودانية إضافة للقوى الإسلامية الحاكمة, وقال أية معادلة سياسية من أجل استقرار السودان يجب أن تحتوي هذه القوى. وقال السفير الأمريكي إن القوى الإسلامية تمثل القوى الحديثة, ولأنها حديثة هي تستطيع أن تتغير وفقا لمجريات الأحداث, وإذا استطاعت أن تتبنى الخيار الديمقراطي, سوف يشهد السودان تحولا جديدا, ليس داخل السودان فقط بل في جميع المنطقة. وقالت كريستينا إن السودان يملك قدرات كبيرة جدا, وإمكانيات تجعله يؤثر في جميع المنطقة التي حوله, ويستطيع من خلال محوره الإقليمي أن يلعب دورا مؤثرا في الشؤون الدولية. وقالت أية رهان على القوى التقليدية يصبح رهانا فاشلا؛ فالقوى الحديثة هي التي تشكل مستقبل السودان, وعلى النخب الثقافية والسياسية أن يقرأوا الواقع الجديد بنظرة واقعية, وليس من خلال التمسك بالتاريخ. بعد ذلك جاءت إدارة بوش الابن, وحاولت أن تغير إستراتيجيتها مع الخرطوم, بأنها عينت مبعوثا رئاسيا للولايات المتحدة للشأن السوداني كان الهدف منه هو الوصول إلى اتفاقية توقف العنف, وتؤسس لدولة ديمقراطية على أسس جديدة, كما أن خيار الانفصال ليس بعيدا, باعتبار إن الشركات الأمريكية العاملة في مجال النفط وكل الحفريات في الولاياتالمتحدةالأمريكية, كانت تضغط الإدارة أن تحل مشكلة السودان, ووضع حد للحرب, لكي يسمح لها بالدخول والمنافسة في السودان, لذلك ضغطت الولاياتالمتحدة على كل من حكومة الخرطوم والحركة الشعبية, للجلوس على طاولة المفاوضات, كانت بالفعل الولاياتالمتحدة حريصة جدا أن يتفق الطرفان, من أجل وقف الحرب, وعلى وحدة السودان, ولكنها كانت تعتقد أن دخول الحركة الشعبية في السلطة ومعها بعض القوى السياسية, سوف يكون على حساب سيطرة سلطة الإنقاذ, وتستطيع القوى السياسية ومن خلال حركتها وسط جماهيرها أن تقلل قبضة الإنقاذ, ولكن بعد اغتيال الدكتور جون قرنق وبروز قيادة جديدة, ورغم مكوث هذه القيادات في القيادة إلى جانب قرنق طويلا في الحركة الشعبية, ولكن كانت خبراتها حول إدارة الصراع ضعيفة, وقال في ذلك المبعوث الأمريكي أندرية ناتيوس في ندوة له في متحف الهلكوست عام 2006 إن هناك تغييرات حدثت في قيادات الحركة, سوف تؤثر بشكل كبير على مجريات الأحداث. وفي ذات الموضوع قالت مساعدة وزيرة الخارجية الأمريكية للشؤون الأفريقية جيندراي فريزر, في مقابلة صحفية في لندن إن الأحداث قد فرضت تغييرا ضروريا في الإستراتيجية التي نتعامل بها في السودان, وفي ذات الفترة بدأت تبرز دعوات الانفصال بصورة واضحة في خطاب القيادات الجنوبية, كانوا في البداية يفسرونها أنها تكتيك بهدف الضغط على المؤتمر الوطني, ولكنها كانت الإستراتيجية الجديدة, وبدأ القيادات الجنوبية تشد الرحال إلى واشنطن بصورة متواصلة, وفي فترات قريبة من بعضها البعض, وكانت لغتهم تركز على الانفصال, واستطاعوا أن يقنعوا اللوبي الصهيوني في أمريكا, ثم مؤسسات المجتمع المدني, وعددا من أعضاء الكونجرس ومجلس الشيوخ, وخاصة الأعضاء من أصل أفريقي, واستطاعوا أن يستخدموا المعارضة في خططهم الانفصالية. و للضغوط التي بدأت تمارس على الإدارة الأمريكية, من جوانب عديدة, بدأت تنصاع لقضية الانفصال, ولكنها كانت تريد أن يؤدي الانفصال إلى سلام واستقرار, لكي يجعلها تستطيع أن تستثمر في الدولتين, لكن في ذات الوقت كانت أيضا قضية دارفور استطاعت أن تخلق رأيا عام داخل الولاياتالمتحدة, وأن تتبناها منظمات لديها القدرة على الحركة وسط المجتمع الأمريكي, الأمر الذي عقد مشكلة السودان, باعتبار أن الولاياتالمتحدة لا تستطيع أن تتجاوز الرأي العام الأمريكي, ومطالب المنظمات التي كانت تنادي باتخاذ موقف من حكومة الخرطوم وكانت أيضا تؤثر في الرأي العام, حيث إن الإدارة الأمريكية كل أربع سنوات يعتمد مصيرها على البقاء في السلطة على صناديق الاقتراع, الأمر الذي لم تستطيع أن تفهمه بعض قيادات الإنقاذ. إذن الإستراتيجية الأمريكية في صراع مع الدولة المنافسة في القارة الصين, تقوم على منافسة الشركات الصينية في أفريقيا, وإبعاد الصين من المناطق التي لها تأثيرات في الإقليم, وانفصال الجنوب يمنح الدولة الجديدة أن تتعاقد مع شركات جديدة, وبالتالي تكون قد استطاعت مزاحمة الصين, في مناطق كانت تعتبر مناطق نفوذ لها, كما إن الولاياتالمتحدة هي تعرف من خلال امتلاكها لأجهزة تكنولوجية متطورة جدا تعرف الثروات التي يمتلكها السودان, وهي لا تريد استقرار في السودان الآن حتى لا تستطيع الشركات الصينية, والقوى الصاعدة الاقتصادية الجديدة في العالم أن تضع يدها عليها, وعدم الاستقرار سوف يكون مناخا غير جاذب للاستثمار, حتى تتأكد الولاياتالمتحدة أن الوقت المناسب قد حان لفرض مشروعها لاقتصادي, ودخول شركاتها السودان, وهي شروط الصراع الإستراتيجي. رغم إن قيادة الإنقاذ كانت تعتمد على تحالفها مع الصين, عندما كان السودان موحدا, ولكن سوف يضعف التحالف لذهاب أغلبية أبار النفط لجنوب السودان, ومعروف أن التحالفات تقوى على المصالح المشتركة. سمعت الدكتور نافع على نافع يردد تكرارا, أن الولاياتالمتحدة تعمل على إسقاط النظام في الخرطوم, وآخرها في المقابلة التلفزيونية مع أحمد بلال الطيب, وأعتقد أن الدكتور نافع على نافع كان مديرا لجهاز الأمن والمخابرات, وكان عليه أن لا يقرأ ذلك بحس سياسي, أو من خلال وظيفته السياسية كمساعد رئيس الجمهورية, وأن يقرأها من خلال وظيفته القديمة, على منهج إستراتيجي, إن الولاياتالمتحدة تعرف أن القوى السياسية المعارضة في السودان بواقعها الحالي, ليست بديلا يمكن أن يصنع السلام والاستقرار, كما أن القوى التي تقاتل هي نفسها لا تستطيع أن تقنع الشارع السوداني أنها بديل مناسب, يمكن أن يصنع سلاما, ومعروف إن الولاياتالمتحدة هي التي استخدمت المحكمة الجنائية الدولية في الصراعات السياسية في السودان, واتهمت عددا من القيادات الإنقاذية, ليس لأنها تريد الإطاحة بالنظام, ولكنها تريد أن تهجن النظام, وتجعله مطاوعا وأن يفك ارتباطاته الإستراتيجية مع منافستها في المنطقة, وأية نظام سياسي جديد في السودان, لا تستطيع الولاياتالمتحدة أن تتنبأ باتجاهاته, لذلك هي حريصة على بقاء النظام, وهي تستطيع ممارسة الضغط عليه. وما قاله المبعوث الأمريكي الخاص, برنستون ليمان, عندما سئل هل الولاياتالمتحدة تريد أن يمر الربيع العربي في السودان؟ قال بشكل واضح نحن لا نرغب في تغيير النظام, ولا نساعد القوي التي تنادي بتغييره, ولكننا نريد أن تجري تغييرات قانونية, تساعد على عملية الاستقرار والسلام. تعلم الولاياتالمتحدة إمكانيات السودان الإستراتيجية في المنطقة, وتأثيرها على شعوب المحيط بما فيها دولة جنوب السودان, إذا استطاعت القيادات السياسية في السودان أن تكتشف قدرات بلادها الإستراتيجية, واستخدامها, لذلك وضعت الولاياتالمتحدة السودان ضمن دول وسط وشرق أفريقيا ولم تضعه من دول الشرق الأوسط, ويعتقد البعض أن عدم وضع الولاياتالمتحدة السودان ضمن دول الشرق الأوسط لأنها تريد أن تضعف الدول العربية, وهذا فهم خطأ. تعتقد الولاياتالمتحدةالأمريكية من خلال رؤيتها الإستراتيجية أن هناك لاعبين عديدين في الشرق الأوسط لا يسمحون أن يلعب السودان دور الدولة المحورية, ولكن يستطيع السودان في منطقة وسط وشرق أفريقيا أن يلعب دورا محوريا, ليس إقليميا فقط بل في الشؤون الدولية, وهي نظرة من المفترض أن تنظر لها العقلية الإستراتيجية في السودان بموضوعية وليس من خلال العاطفة. الغريب في الأمر إن مصر مدركة للدور الذي يمكن أن يلعبه السودان في المحيط الإقليمي, لذلك لم تساعده على إطفاء نيران مشاكله, وهذه قضية أخرى تحتاج لمبحث خاص. بالأمس القريب عند احتلال دولة جنوب السودان لمنطقة هجليج, تلقيت محادثة تلفونية من البروفيسور بول ديفيد وهو أستاذ للعلوم السياسية والإستراتيجية وللعلم هو «يهودي صهيوني» وكان قد ناقشني في رسالة الماجستير في جامعة «Griffith University» استراليا يسألني في المحادثة عن أسباب الحرب بين الدولتين, فقلت يجب أن تسأل الولاياتالمتحدة وإسرائيل, ضحك الرجل وبما معناه قال «سيبنا من الشماعة بتاعتكم» أريد أسباباً منطقية وعلمية, باعتبار كان من المفترض الانفصال يوقف أية أسباب أخرى للحرب؟ وأوضحت أن هناك مناطق متنازع عليها بين البلدين, وهناك حروب بالوكالة تؤثر على الاستقرار. ثم سألت الرجل هل تعتقد أن الولاياتالمتحدة تكون وراء هذه الحرب؟ قال ما هي مصلحة الولاياتالمتحدة في الحرب؟ ولماذا لا تكون دولة الجنوب نفسها مصلحتها الداخلية في استمرار النظام أن تفتعل حروب خارجية؟ إن الولاياتالمتحدة مثل الشركة الخاصة تريد سلاما واستقرارا لكي تربح شركتها.. وأية حروب في المنطقة سوف تخسرها. وقال من الناحية الإستراتيجية لمصالح الولاياتالمتحدة, أن تبني علاقات مع السودان, وليس مع جنوب السودان. قلت ولكن ربما تعتقد الولاياتالمتحدة أن النظام الحاكم في السوداني محسوبا على الإسلاميين, وهي تتخوف من نمو جيد لتنظيم القاعدة. قال لهذا السبب, أفضل لأمريكا إستراتيجيا أن تقيم علاقات معه حفاظا على مصالحها. في ختام الحديث قال إن السياسة مثل البحث العلمي, يجب أن يستخدم فيها المنهج العلمي، أن تقدم افتراضاتك وتخضع تلك الافتراضات للتحليل والتقييم, لكي تصل لنتيجة أقرب إلى الصواب. إذن علينا فعلا في السودان أن ننظر لقضية السلام والاستقرار في السودان, من خلال العوامل الرئيسية المؤثرة في عملية عدم الاستقرار, والأسباب التي تدفع دولة جنوب السودان, لشن حرب على السودان. ولكن أيضا علينا أن نبحث عن الأسباب الرئيسية التي ترفض بموجبها الولاياتالمتحدة إقامة علاقات مع السودان, وما هو المطلوب فعله من السودان لكي تتحسن تلك العلاقة, وفي نفس الوقت أيضا يجب دراسة الصراع الإستراتيجية في أفريقيا, وتأثير الصراع على دولة السودان, فهي قضية تحتاج إلى بال طويل يمكن أن تقوم به مراكز الدراسات والبحوث والمراكز الإستراتيجية, بعيدا عن الشعارات السياسية اليومية, لكن السؤال هل القيادات السياسية السودانية مهما كانت انتماءاتها عندها القناعة التي تجعلها تستفيد من الدراسات الإستراتيجية المقدمة لها أم أنها تفضل جدل اليوم أي رزق اليوم باليوم. وفي الختام نسأل الله التوفيق.