(أهدي هذا البيان إلى الرجال والنساء ممن يؤمنون في ما يتعدى كل عقائدية وكل أيديولوجية كمشروع للمستقبل) بسراب نيكولسكو يحاول هذا المقال دراسة العمل الروائي «مزرعة الحيوان» للكاتب البريطاني جورج أورويل، بإسقاطها على واحد من المفاهيم المعرفية الجديدة التي أنتجها العقل الفيزيائي، ثم تمددت كمفهوم «أبستمولوجي» حديث للتعامل مع العالم كظاهرة ثقافية/حضارية/ عبرانسية/ عبروطنية، عبرتاريخية، دون الارتكان إلى منهج واحد يصادر ويقصي ما عداه من مناهج. ويشتغل هذا المفهوم على الشأن الإنساني لإيجاد صيغ متعددة لسبر غور علاقة ضائعة بين الثقافات والحضارات الإنسانية. ونعني بهذا المفهموم الجديد فلسفة «العبرمناهجية» (Transdisciplinaire). التي صاغها الفيزيائي الفرنسي بسراب نيكولسكو قبل ثلاثة عقود، ثم دخلت حيز الاستعمال بسرعة كنجوع لكبح جماح العالم المضطرب بالموت والدمار وانفجار التعصب الديني والعنف الناتج من محاولة ترسيخ عالمية واحدة لتوجيه العالم والسيطرة عليه. وترتكز الدراسة ابتداءً على أن «مزرعة الحيوان» عمل روائي عبرمناهجي بامتياز في مضمونه لا تكنيكه وسرديته، لكون الرواية هدفت بعيداً عن سخريتها اللاذعة إلى (انتقاد الأنظمة الدكتاتورية بشكل عام والثورة الروسية عند أغلب النقاد- ونظام الحكم الذي تلاها بشكل خاص وليس كما كان جورج أورويل يحب أن يروج بأن الرواية مجرد خيال أدبي لا غير). وتبين تفاصيل الرواية فساد القادة كنقيصة في الثورة «لا تعيب فعل الثورة ذاته» وتوضح بجلاء كيف يمكن لتضخم الأنا/المالكة للحقيقة اعتباطاً/ وللجهل واللامبالاة بالمشكلات في الثورة أن تؤدي إلى وقوع فظائع إذا لم يتحقق الانتقال السلس إلى حكومة الشعب دون وصاية أحد على أحد. ويجدر بنا قبل أن نسترسل في تناول مضمون الرواية أن نحدد إطاراً تعريفيا غير مختزل ل»العبرمناهجية» رغم خشيتنا من ذلك. في كتاب: بيان العبرمناهجية الصادر العام 2000م بترجمة ديميتري أفييرينوس، يقدم بسراب نيكولسكو مقاربة علمية، ثقافية، فكرية واجتماعية، تبحث (في كل ما يجمع بين التخصصات المعرفية المتعددة، فتعبرها بحثاً عن مقاربة جديدة للعالم تستحضر هاجس تكاملية المعرفة، وذلك في إطار تحليل علمي أبستمولوجي يسائل الفكر الإنساني في مختلف امتداداته وتجلياته الحضارية في تعدد مستوياتها بين الازدهار والاندحار. إن أفول وتقهقر الحضارات في تصور نيكولسكو سيرورة بالغة التعقيد يحاصر غموضها لا عقلانيتها كل محاولة منا للكشف عن ملابساتها، والفاعلون في حضارة معينة باختلاف مستوياتهم من عامة الناس إلى صانعي القرار الكبار وإن كانوا واعين بهذه السيرورة، فإنهم لا يملكون ما يوقف اندحار حضارتهم غير أن ما يبقى مؤكداً هو تلك الهوة الواسعة بين عقليات هؤلاء الفاعلين من جهة، والضرورات الداخلية لتطور مجتمعاتهم من جهة أخرى). ومن وجهة نظر العبرمناهجية، كل منظومة فكرية مغلقة أياً كانت ذات طبيعة أيديولوجية، سياسية أو دينية، لا يمكن إلا أن تخفق. فالمنظومة الفكرية المغلقة تبني وجودها على مفهوم الجمهور غير المتمايز عديم الأشكال المتعددة وهو عين ما جاء في فاتحة أحداث الرواية وذروتها على لسان الخنزير العجوز (ميجر) في نبوءة واتته في المنام (إن الإنسان هو عدوكم الأول) أو في المبادئ الحيوانية السبعة التي بنيت عليها مزرعة الحيوان (كل ما يسير على قدمين هو عدو، كل ما يسير على أربعة أقدام أو له أجنحة هو صديق، يحظر على الحيوان ارتداء ملابس، يحظر على الحيوان النوم في سرير، يحظر على الحيوان شرب الكحول، يحظر على الحيوان قتل أي حيوان آخر، وجميع الحيوانات متساوية) قبل أن يضاف إلى المبدأ الأخير بليل ما، عبارة زائدة ليقرأ (جميع الحيوانات متساوية إلا أن بعضها أكثر تساوياً من البعض). والمبادئ السبعة تعتبر عبرمناهجياً تصوراً مجرداً يقضي على الاختلاف كلية من أجل مصلحة ما لفئة ليست بالكثيرة. فقد كانت النازية مثلاً تراهن على الشعب الذي يؤلف (عرقاً) مثلما تراهن الدولة الإسرائيلية حالياً على (الدين) الذي يؤلف وطناً، واحتقرتا معاً النبل الداخلي لكل كائن بشري، مثلما احتقرت حيوانات جورج أورويل صاحبها السيد/ المختلف/ (جونز) وحملته مسؤولية التعاسة التي تعيشها (علام نواصل تلك الحياة التعسة؟ ما من سبب يدعو لذلك، إلا جشع الإنسان، الذي يستحوذ على فائض الإنتاج، وهي الحقيقة المرة التي تفسر لنا أسباب تعاستنا، وإن دارت كلها حول محور واحد هو الإنسان! إن الإنسان هو عدونا الأوحد والأزلي، فإذا ما استبعدناه من طريقنا، فإننا نكون بذلك قد محونا جذور الجوع والعبودية إلى الأبد. فالإنسان أيها الرفاق هو المخلوق الوحيد، الذي يستهلك ولا ينتج، فهو لا يدر اللبن ولا يبيض، وهو أَوْهَى من أن يحرث الأرض بنفسه، وهو أبطأ من أن يلحق بالأرانب ليصيدها بيديه، ومع ذلك فإنه السيد على جميع الحيوانات، يسخرها في العمل، ولا يجود عليها إلا بالكفاف مستأثرا بكل الطيبات). وبذلك حددت الحيوانات من هو الذي يليق به أن يعيش في المزرعة ومن هو الذي يجدر به مغادرتها (عليكم إذن أن تتخلصوا منه، وعندئذ تعود إلينا ثمرات عملنا، إنني لا أشك لحظة أن حلمنا هذا في الحرية والثراء لا بد أن يتحقق، ولكنّ علينا واجباً شاقاً يجب أن نؤديه، إن علينا أن نعمل ليلاً ونهاراً بأرواحنا وأجسادنا لقلب نظام الجنس البشري). كذلك الأيديولوجيا الشيوعية -التي تقدم الرواية على أنها سخرية منها رغم جمالية استخدام الحيوانات كشخصيات للرواية وإعطاء ذلك بعداً خيالياً خرجت به من إطار البلاد والزمان المحددين - كانت الآيديولوجيا الشيوعية (تؤله إلى حد بعيد الجماهير الشعبية المكونة من بشر جدد متماثلين في جميع الأشياء محتقرة بذلك التباين الأصلي لقوميات دول الاتحاد السوفيتي مما قاد إلى جرائم العهد الستاليني). إن الرؤية العبرمناهجية هي في الوقت نفسه عبرثقافية، عبردينية، عبروطنية، وعبرسياسية، عبرتاريخية، باعتبارها حيوات خاصة وحياة داخلية للكائن البشري ومن ثم لا مجال قطعاً لتدخل الدولة في تلك الحياة الداخلية للكائن لأنها هي من صميم اختصاص المسؤولية الفردية. لذلك يسهل علينا ادعاء أن الرواية من خلال «عبرمناهجيتها» لا تتضمن إدانة نظام الحكم الدكتاتوري والثورات الخداعة قط، مثلما قال ذلك كثيرون، إنما تتعدى ذلك لتدين حالة الاستسلام والتماهي الكلي التي يبديها مجتمع الحيوانات في المزرعة تجاه ما يُمارَس عليها من صنوف القهر والظلم. مراجع بسراب نيكولسكو - بيان العبرمناهجية، ترجمة ديميتري أفييرينوس، 2000م. جورج أورويل – مزرعة الحيوان، رواية 1947م. ريم ناصر العوفلي - رسالة ماجستير في رواية مزرعة الحيوان، جامعة صنعاء. محمد فاضل رضوان – قراءة في بيان العبرمناهجية. لودو مارتينيز - ستالين نظرة أخرى 2008م.