السودان..تحذير خطير للأمم المتحدة    شاهد بالفيديو.. ناشط سوداني يهاجم الفنانة عشة الجبل ويثبت غيرتها من زميلتها الفنانة مروة الدولية: (عرس الدولية حارقك وقاطع قلبك والغيرة دي ما حلوة)    شاهد بالفيديو.. حكم كرة قدم سعودي يدندن مع إبنته بأغنية للفنان السوداني جمال فرفور    شاهد بالصور.. رصد عربة حكومية سودانية قامت بنهبها قوات الدعم السريع معروضة للبيع في دولة النيجر والجمهور يسخر: (على الأقل كان تفكوا اللوحات)    شاهد بالصورة والفيديو.. المذيعة شهد المهندس تشعل مواقع التواصل بعد ظهورها وهي تستعرض جمالها بأزياء مثيرة للجدل ومتابعون: (لمن كنتي بتقدمي منتصف الليل ما كنتي بتلبسي كدة)    هل فشل مشروع السوباط..!؟    بلومبيرغ: قطر تستضيف اجتماعا لبحث إنهاء الحرب بين روسيا وأوكرانيا    سوق العبيد الرقمية!    مخاوف من قتال دموي.. الفاشر في قلب الحرب السودانية    صلاح في مرمى الانتقادات بعد تراجع حظوظ ليفربول بالتتويج    أمس حبيت راسك!    راشد عبد الرحيم: وسقطت ورقة التوت    وزير سابق: 3 أهداف وراء الحرب في السودان    الصين تفرض حياة تقشف على الموظفين العموميين    (المريخاب تقتلهم الشللية والتنافر والتتطاحن!!؟؟    معتصم اقرع: لو لم يوجد كيزان لاخترعوهم    وكالة الفضاء الأوروبية تنشر صورا مذهلة ل "عناكب المريخ" – شاهد    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    "منطقة حرة ورخصة ذهبية" في رأس الحكمة.. في صالح الإمارات أم مصر؟    مصادر: البرهان قد يزور مصر قريباً    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    برشلونة: تشافي سيواصل تدريب الفريق بعد تراجعه عن قرار الرحيل    إيفرتون يصعق ليفربول بثنائية    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    إقصاء الزعيم!    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    السودان..رصد 3″ طائرات درون" في مروي    كواسي إبياه سيعيد لكرتنا السودانيةهيبتها المفقودة،،    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في ندوة تدشين جماعة عمل الثقافية : بروفيسور منتصر الطيب: خرج الإنسان من إفريقيا قبل ثلاثين ألف عام
نشر في الأحداث يوم 02 - 05 - 2012

مات من أجل الوطن، بدون أن يعرف كيف ولماذا. لقد امتلكت تضحيته مجد بقائها مجهولة. وهب حياته بكل نزاهة الروح: بالغريزة وهبها، لا بفعل الواجب؛ حباً للوطن، لا وعياً بالوطن. لقد دافع عنه (الوطن) كمن يدافع عن أم نحن أبناؤها بالولادة، لا بالمنطق. مخلّصاً للسر البكر، عاش موته غريزياً، كما كان قد عاش حياته. الظل الذي اعتاده الآن يتآخى مع الظلال التي التفت على أعمدة الحرارة وفية في اللحم للقسم الذي ولدت عليه، يقول فرناندو بيسوا في «كتاب اللاطمأنينة». في أحيان كثيرة لا نؤمن بالمصادفة؛ كيف لنا أن نؤمن إذا اجتمع أكثر من خيط في آن واحد لِندلّ على شيء مُحدد نحن لا نبحث عنه؛ قرأت هذه الأبيات في ذات اليوم الذي كنت أنوي فيه حضور الندوة التي نظمتها جماعة عمل الثقافية، تحت عنوان: (درب الآلام.. مُختصر الهجرات البشرية من «جنة عدن» إلى «الآن») واستضافت من خلالها منتصر الطيب بروفيسور الأحياء الجزيئية وعلم الجينات في معهد الأمراض المستوطنة بجامعة الخرطوم. لقد اشتعلت الحروب لأوقات طويلة بين العلم من جهة وما هو ميتافزيقي أو غير مُفسر من جهة أخرى، لكن ما لا شك فيه أن قدرة الإنسان هائلة وعظيمة، أن يتكشف لها العلم أو يمتد فيها الخيال مساحات شاسعة لا حصر لها. لهو عين الرضى التي لا ترضى. إن هذا الغنى - وإن جاز تسميته صراعاً أو حربا - يبقى بذرة الحياة فينا نرعاها وترعانا كذلك.
ولمنتصر الطيب كتاب مؤلف بعنوان: تشريح العقل العرقي (مجموعة مقالات). كما ترجمَ كتاب «الإنسان في الشتات - تاريخ التنوع الوراثي والهجرات البشرية الكبرى» للويجي سفورزا. كتب في العديد من المجلات والصحف والدوريات العلمية والعامة.
تخوم: أنس عبد الرحمن
هذه الندوة دشنت بها جماعة عمل الثقافية المكونة حديثاً من كُتّاب وتشكيليين وموسيقيين وصحفيين وسينمائيين نشاطها. تقول الجماعة عن نفسها على لسان التشكيلي عبد الله محمد الطيب: إنها محاولة لاختراق الشرط القاسي الذى يحيط ويحبط مختلف أوجه العمل والمشاريع الإبداعية لمؤسسيها، وأن التسمية جاءت لتؤكد أن النشاط الإبداعي هو أيضاً عمل قد يفوق تأثيره أشكال العمل الأخرى المتعارف عليها، وأن مؤسسيها يسعون لرد الاعتبار لأعمالهم، والقفز فوق حائط التجاهل واللامبالاة التي هي قسمتهم ونصيبهم من مؤسسات الدولة والشعب؛ يضيف عبد الله: كان البُحتري يقول حين ينشد شعراً (قولوا أحسنت، لماذا لا تقولوا أحسنت؟ فوالله لقد أحسنت)، ويقول نيتشة (مُتعة أن نمتدح أنفسنا بأنفسنا) وهي في ذلك – عمل - لا تعبأ بالأشكال التنظيمية العقيمة، إذ ليس ضرورياً لمن يريد أن يساهم في عمل الجماعة بأي شكل من أشكال النشاطات الإبداعية أن يكون من ضمن عضويتها.
نسقت وقدمت الندوة الكاتبة رندا محجوب التي قالت في كلمتها: على طريق الجلجلة الذي ألهمَ الكثير من الفنانين، تلك اللوحات العظيمة والأفلام الصاعقة ورواية «اليكسي تولستوي» الضخمة. ها نحن اليوم على نفس الطريق بتغيُّر الزوار، وزائره اليوم هو علم الجينات. يقول غاستون باشلار: (الملاحظة العلمية دائماً سجالية، فالذي يبدو وكأنه امبريقي، ليس في غالب الأحيان سوى شخص غير منهجي في علاقته بمعاصريهِ الذين يتكئون على مكاسب اللحظة)، بهذا المعنى يمكن أن نرى العالِم ك يهوذا يُقدِّم قبلته للحياة الصاعدة على طريق الجلجلة؛ درب الآلام.
تضيف رندا: هذه الاستضافة هي شدوٌ على دارج العرى الوثيقة ما بين العلم وعالم الفنان، وما «ينشال ويتأرضن» بالتبادل بينهما، خصوصاً بعد أن شهدنا مصرع الحتمية (Determinism) وهو مصرع زهرة – لنتذكر أبو داؤود - على يد ما يشبه الدفقة الحيوية عند «برجسون» أو عبر سيال دافق ثريٌّ بالرؤية، مزجٌ ما بين الشكوكية واللاأدرية. لنتذكر أيضاً أن الإنسان في أضابير العلوم يُدعى Homo sapiens أي – العاقل - وما في ذلك من إحالات إلى الأدب والتفكير وصداقة الحكمة. وقبل ذلك دُعيَ Homo erectus وما في ذلك من إحالات إلى أن الإنسان كان فنان وضعياتهِ. إلا أنه لم يُدعَ أبداً Homo biologicus ذلك لأن البيولوجيا ناتجة عن فن الحياة.. والحياة ذات نفسها هي شيء حديث نسبياً (كما يشير فوكو وغيرهم).
تقول «ليندا جين شيفرد» في كتابها «أنثوية العلم»: (كلَّما أتعلمُ أكثر عن العالم، أتعلمُ عن نفسي وكلما أتعلمُ أكثر عن نفسي أتعلمُ أن أسترجع الإسقاطات التي أقولب فيها العالم). والإسقاط في عُرف علم النفس هو ترحيل المحتوى الذاتي إلى موضوع، آلية للتخلص من المؤلم وغير المتوافق، وبه تغدو الرؤية أسهل...... يصبح العلم والفن أمشاج السديم النوراني الذي به نحيا.
يقودني هذا إلى إحالة أخيرة نتزود بها على طريق الجلجلة، طريق العالم طريق الفنان، تأتي من عند الإمام «كلود ليفي شتراوس» في كتابه الفكر البري، وهو يذكر ما يُدعى الحرتقة bricolage، تُرجِمَت الحرتقة، (يقوم المحرتق بتوفيق مهام كثيرة ومتنوعة ولكنه ليس كالمصمم يخضعها لما توفر من مواد خام لتحقيق مشروعه. عالم المحرتق ذو أدوات محدودة أنه يستعمل كل ما تقع يده عليه. وكل شيء طارئ بالنسبة إليه إما لتحقيق ما بين ظهرانيه أو لتحطيمه، لذلك فان وسائل المحرتق لا يمكن أن تُعرَّف كمشروع أبداً، كل ما يطرأ على المحرتق يُحفظ لأنه قد يستعمل يوماً ما، تصبح الأشياء واقعية ولكنها في ممكن التحقق في نفس الوقت) ثم يقول: (وكما الانبعاثات الأسطورية، تستطيع الحرتقة عند تطبيقها تقنياً أن تصل بصورة غير متوقعة إلى مراحل فكرية عظيمة).
إذن، كمُحرتقين أو كمهرطقين، كعلماء فنانين أو كفنانين علماء، كبشريٍّ يشهدُ الحياة وهي تمور في دروب التطور وال equilibrium Punctuated لننهل معاً من علم بروفيسور منتصر الطيب البليغ.
وبعد أن رحَّبَ بالحضور وخصوصاً بوجود بروفيسور أحمد الياس، المؤرِّخ والمهتم الفاعل، حاولَ بروفيسور منتصر الطيب – مقدِّم المحاضرة - أن يلتفَّ على عنوانها المُحَمَّل بالمعاني الشعرية، بتأكيده على أن «درب الآلام» هو درب الإنسان في تطوره - بالمعنى الدارويني - للكلمة. مُشيراً بعد ذلك إلى أن وجود أشباه للإنسان على الأرض موضوع لا خلاف عليه. لذا فإن تتبع مختلف هذه الهجرات يجب أن يتم بمعية مفاهيم جديدة تتحمل ثِقْل مافي هذه الهجرة من تنوع وشتات أدَّيا إلى وجود هذا الاختلاف الجسماني البيولوجي الواضح للعيان.
يقول منتصر الطيب: إن «الإنسان» مخلوق بيولوجي ثقافي، وهذه نقطة بالرغم مما يشوبها من وضوح تحتاج لمزيد من الفحص والتمحيص عند إدراجها في مسيرة البحث العلمي، أو عند تداولها على أرض الواقع. يطالعنا مثلاً مفهوم «الميم» وهو وحدة الانتقال الثقافي في مقابل مفهوم «الجين» وهو وحدة الانتقال الوراثي. يضيف: (هذا هو ما أود بصورة رئيسية التحدث عنه: نظرية الميم الثقافية)
ثُمَّ وفي إشارة الى ريتشارد دوكنيز وكتابه «الجين الأناني» Selfish gene انتقدَ بروفيسور منتصر دوكينز لسببين - أولهما تعصبهُ لرأيه ودوغمائيته البيَّنة، وثانيهما أنه ضد الدين بالمطلق، وهذا رأي ليس في مصلحة العلم في شيء. إذ أننا في عهد «ما بعد العلمانية» Post-secularism. يقول منتصر: لا ينبغي أن ندْحَضَ النصوص الموجودة في الكتب الدينية بالكامل في مقابل طُرُق العلم الاستنباطية القائمة على التجريب. إن الاستعارات قابلة للتبادل بين الدين والعلم. فمثلاً الآية (فبدت لهما سوءاتهما) - السوأة هنا قد تكون العقل الذي يبحث بذاته عن مصالحهِ، وبذا، يصبح تاريخ البشرية مبني على الخيارات التي يبحث بها هذا العقل نفسه عن مصالحه. وقد تكون جنة عدن المذكورة في العديد من الكتب هي واحة من واحات شرق أفريقيا التي تشير البحوث إلى خروج حواء الأولى منها. وغيرها من الاستعارات التي هي إشارة إلى الملاحظات التي اضطلع بها العقل البشري ثم رحَّلها إلى تلك الصحائف، دينية كانت أم ثقافية أم غيرها.
يستطرد بروفيسور منتصر: إن الفكر التطوري قديم في البشرية. فقد قال «دارون» بالانتخاب الطبيعي وسيادة الصفات التي تمنح الكائن القدرة على موائمة بيئته واستمرار العيش فيها، ومن قبلهِ كان قد قال لامارك بانتقال الصفات المكتسبة. ولكن كل هذا مذكور بطريقة وصفية أو بأخرى في «حي بن يقظان». هذه القطيعة بين ما هو موجود في الأدب أو كتب الأديان، والعلم - ليست جديرة بكل منهما. لقد تداخلت الأشياء بحيث يمكن أن تقول الاسطورة ما يمكن أن يحققه العلم.
درب الآلام
يقول منتصر الطيب: مر الإنسان بمراحل تطور كثيرة، إلا أن العلماء يعتقدون أن شيئاً ما مجهولاً حدث له قبل ثلاثين ألف سنة، جعله يُطور أنواع جديدة من الأدوات؛ وهو ما يسمى بالعصر الحجري القديم الأعلى. وقد شهدت هذه المرحلة زيادة في مخ الإنسان، وهو أمر مرتبط ارتباط ووثيق بما يتعلق بالحمل والولادة عنده؛ إذ إنه الحيوان الوحيد الذي يولد ويستمر في كنف والدته لفترة طويلة جداً؛ لذلك هناك بعض الآراء البيولوجية التي تفترض أن الإنسان يخرج مبكراً من رحم أمه الضيق على تلك الزيادة التي طرأت على رأسه. ويعتقد العلماء أيضاً، أن تلك الفترة شهدت نزوع الإنسان نحو التفكير، والتدين، وإنتاج الفنون، ويُعتقد أن أفريقيا هي مسرح تلك التحولات، هذا ما أثبتته الخرائط الجينية التي أكدت تتطابق جيني كبير يُميز سكان السودان وارتريا مروراً بالجزيرة العربية ثم الهند وحتى القارة الاسترالية، من بقية سكان العالم؛ وهو الطريق الذي سلكه الإنسان للخروج من أفريقيا، ويربط البعض بين هذه الهجرة وسبب ارتفاع مستوى الغذاء عند الإنسان، خصوصاً مادة «أوميقا 3» الموجودة في السمك». يضيف منتصر: قدرة الإنسان على استهلاك أنواع معينة من الغذاء ذادت قدرته على الذكاء والتطور؛ يقول بعض علماء الآثار إن أقدم خطاف لصيد الأسماك يعود إلى ما قبل التاريخ عثر عليه في منطقة السودان وحوض الكنغو. لماذا السودان؟ قبل ثلاثين ألف سنة بدأ انحسار العصر الجليدي واستمر حتى قبل خمسة عشر ألف عام، كانت أوروبا منطقة غير صالحة للاستيطان، كذلك أفريقيا بسبب غاباتها الكثيفة باستثناء منطقة الصحراء الكُبرى؛ التي لم تكن منطقة قاحلة في ذلك الوقت؛ وهذا ما توضحه الرسومات القديمة التي أكدت وجود حيوانات استوائية في الجزائر، كما إن الأدلة الوراثية تؤكد ذلك.
ظهور الألوان
يقول بروفيسور منتصر الطيب: وفي ذات المرحلة ظهرت قدرة الإنسان على الرسم، وهنا تبرز عدت تساؤلات، كيف رسم الإنسان؟ وما الذي حمل أول إنسان إلى رسم الأشياء التي من حوله؟ فإذا كانت الحيوانات تُشارك الإنسان ملكات عديدة مثل القدرة على الحساب، فإن ملكة الرسم إضافة إلى اللغة صفتان يتميز بهما الإنسان دون بقية الحيوانات الأخرى. وحتى تفهم ماذا يحدث؛ تتكاتف في وقتنا الحاضر جميع العلوم لشرح الكيفية التي يعمل بها مخ الإنسان؛ واحدة من النتائج المهمة التي توصلت إليه هذه الأبحاث، وجود ما يُسمى بالخلايا العصبية المرائية؛ المسؤولة عن سبب محاكاة الإنسان للإنسان والتعاطف معه، وقدرته على رسم الأشياء من حوله؛ كما تُفسر أيضاً كيفية الانتقال والتبادل الثقافي.
يضيف منتصر: تطور مخ الإنسان في تلك المرحلة فسر أيضاً مرض الشيزوفرينيا كصفة بشرية، إذ إنه أضحى قادراً على التخيل، وصار يؤمن بوجود قوة خارجية أكبر منه؛ يحول تفسيرها عبر التقرب إلى أيقونات موجودة في الطبيعة، وفي بعض المناطق قدَّس الإنسان خصوبة النساء كقوة أساسية مُطلقة، وهنا يجدر بنا الإشارة إلى أن النساء كن يلعبن أدواراً رئيسية في فترات ما قبل التاريخ، إلا أن تغيرات غير مفاهيمية، يمكن أن تكون سياسية أو اقتصادية، طرأت على هذه الوضعية؛ كنت أبحث عن أكثر الأسباب التي كانت تؤدي إلى وفاة الإنسان، الذي لم يكن يتجاوز متوسط سنوات حياته الثلاثين عاماً، خصوصاً بعد اكتشاف الرعي والزراعة، واحدة من أغرب أسباب الوفاة التي وجدتها، وتوضح الانقلاب الذي حدث على النساء، بلغتني عن حادثة اغتيال آخر أمناء مكتبة الإسكندرية عالمة الرياضيات هايباتيا ألكساندرا التي قتلها الغوغاء وسلخوا جلدها بصدف البحر؛ أثارت هذه الحادثة اهتمامي لأنني كنت أعتقد أن النساء كُنّ خارج نطاق العلوم في ذلك الوقت.
يستطرد منتصر الطيب: إذا عدنا بالحديث عن السودان، نجد أن دلائل جينية كثيرة تقول إنه المنطقة التي تطور فيها الإنسان، وخرج منها بعد وقت متأخر. كان العلماء يعتقدون أن الإنسان خرج من إفريقيا قبل مئة ألف عام، ثم تناقص إلى ستين ألف عام، قبل أن يُحدد بأربعين ألف عام. نحاول الآن عبر بحث نعكف على إجرائه، تقليص هذا التاريخ إلى ثلاثين ألف عام. الجينات لم تجاوب على هذه السؤال؛ إلا أن أكثر من ستين في المئة من التنوع الوراثي لسكان العالم موجود في السودان، الصينيين كشعب بلغ تعداده أكثر من مليار نسمة، يتشابه جينياً، لذلك إذا حل به أي وباء يتعرض لخطر الانقراض. يقول بروفيسور منتصر: أعتقد أن طفرات جينية مصحوبة بتحولات ثقافية أدت إلى استمرار هذه الطفرات، ومن ثم تمكن الإنسان من الخروج من إفريقيا عبر باب المندب، ووصل حتى استراليا مستخدماً نوعاً من أنواع المراكب الصغيرة، وهذا يعني أن الإنسان كان لديه قدرة على الابتكار قبل ثلاثين ألف عام. يضيف منتصر: قبل فترة قصيرة قدّم بروفيسور أحمد محمد الحسن مُحاضرة عن العين، كشف فيها عن استعمالات ثقافية في استراليا وأمريكا الجنوبية، متشابهة مع الاستعمالات الأفريقية مثل «كف العين»؛ وفي العادة فإن الثقافات لا تعيش إذا خرجت من منطقتها لأوقات طويلة.
لغات مُهاجرة
يقول منتصر الطيب: اللغات لها علاقة وثيقة مع الجينات، في أفريقيا حدثت ثلاثة أنواع من أنواع التوسع اللغوي الجيني، واحدة من هذه الأنواع ما يسمى باللغة الأفريقية الآسيوية، التي توصل البعض عبر أدلة جينية ولغوية أنها أصل اللغة المصرية القديمة والهوسا ولغات القرن الإفريقي والعربية والآرامية والعبرية؛ لكن السؤال الذي لم يُحسم بعد، هو حول أين نشأت هذه العائلة اللغوية؟ يعتقد البعض أنها نشأت في القرن الإفريقي، إذ أنها تحتوي على أكبر قدر من التنوع اللغوي، أم البعض الآخر يرجع نشأتها إلى آسيا الرئيسية، إلا أن هناك أدلة متزايدة لم نحسمها بعد، تقول إن هذه العائلة نشأت في جبال المغرب، وأن شعوب القرن الأفريقي واثيوبيا هاجرت من تلك المنطقة. كما إن الباريا وجدوا قديماً في منطقة الهضبة الأثيوبية ثم هاجروا منها، ولقد عثر الباحثون على مدافن نيلية في منطقة كسلا. وهذه واحدة من الهجرات التي بدأت من إفريقيا وامتدت حتى الجزيرة العربية. يضيف بروفيسور منتصر: لقد ارتبط المتحدثون بهذه العائلة اللغوية ارتباطاً وثيقاً بتربية الأبقار، بما فيهم شعب الهيبنتوت في جنوب افريقيا الذي فقد لغته، وصار يتحدث لغة خليط ما بين البانتو ولغات السان، إلا أنه ظل محتفظاً بجينات شعوب شمال افريقيا، وهذا يعني أن هجرة بدأت من شمال افريقيا عن طريق الوادي المتصدع وامتدت حتى رأس الرجاء الصالح.
يقول منتصر الطيب: الهجرة المهمة الثانية هي لعائلة لغوية تُسمى النيجروكردفانية، يُعتقد أنها بدأت من السودان، ووصلت في وقت وجيز لا يتجاوز الألف عام إلى رأس الرجاء الصالح، واختلطت في طريقها بالأقزام، قبل أن تختلط بالبانتو والسان. أما الهجرة اللغوية الثالثة والتي أيضاً يُعتقد أنها بدأت من السودان هي، العائلة النيلية الصحراوية التي تضم جميع السودانيين، وهي من أكبر وأقدم مجموعة لغوية، تبدأ من جنوب مصر وحتى منطقة البحيرات الكُبرى، وقد امتدت أيضاً إلى جنوب القارة الأفريقية. يضيف منتصر: من المؤكد أن الهجرة تُحدث تغيرات أساسية في البشر تقودهم إلى الاختلاف عن بعضهم البعض؛ فتكوين الجينات له علاقة قوية بالبيئة التي نعيش من حولها، أعني تغيرات البيئة الطبيعية إضافة إلى الأمراض والثقافة، إذ إن هذه العوامل تُغير تكويننا الجيني بدون أن نشعر بذلك. لقد استطاع الإنسان أن يعيش في مناطق منخفضة وعالية، حارة وباردة، وأن يحدث طفرات جينية تتواءم وطبيعة منطقته الجغرافية. لقد اتضح من خلال دراسة هذه الطفرات أن مفهوم العرق لا يستند على جذور عميقة، هو تواؤم مع الطبيعة لفترة لا تتجاوز الألفي عام، تتغير فيها الملامح واللون وفقاً للمكان والطبيعة الجغرافية. ظهرت دراسة قبل أقل من شهر تؤكد أن الأفارقة والأوربيين هم الأقرب إلى بعضهم من ناحية جينية، عطفاً على أن التاريخ يحكي تاريخ هجرات مشتركة كثيرة بين القارتين؛ يميل لون البشرة - عند الإنسان الذي يعيش في مناطق باردة - إلى البياض حتى يمتص أشعة الشمس ليحمي نفسه من مرض الكساح الذي انتشر في اوربا حتى القرن الماضي، وكذلك يحمي الإنسان الذي يعيش في المناطق الحارة التي تحتوي على الأشعة فوق البنفسجية، نفسه من مرض سرطان الجلد بتطوير جينات تجعل بشرته مائلة إلى السواد، وهكذا...
الجمع والالتقاط ومجتمعات جنة عدن
يقول بروفيسور منتصر: إذا افترضنا أن الإنسان عاش مائة ألف عام على كوكب الأرض، فإن تسعين في المئة من هذا المدة عاش فيها الإنسان على الجمع والالتقاط، لذلك فإن جينات البشر قائمة على هذا النوع من الحياة. من ناحية سياسية؛ أعتقد أن مجتمعات الجمع والالتقاط مجتمعات مثالية. إن ظهور العنف والحروب ارتبط بظهور الرعي والزراعة والصراع على الموارد، أي حديث عن أن العنف هو في طبيعة الإنسان خالٍ من الصحة. إن الهجرات وعزلة البشر عن بعضهم، خلق معلمات وراثية مختلفة متعلقة بما ذكرناه بالطبيعة الجغرافية للمنطقة، لكن هذا لا يعني وجود اختلافات وراثية، إذ إن الجينات الأساسية للإنسان لا اختلاف فيها.
يضيف منتصر: إن ظهور الرعي والزراعة أحدث تغيرات كبيرة في تاريخ الإنسان، وقد تضاربت الروايات في أيهما ظهر أولاً، ويرى البعض أن الزراعة أُكتشفت بواسطة النساء، وأن الرعي هو اكتشاف خاص بالرجال. وكان يُعتقد أن تربية الأبقار ظهرت أول ما ظهرت في الهند، قبل أن تنتقل إلى شمال أفريقيا، ثم قيل لاحقاً إنها ظهرت متزامنة في المنطقتين، إلا أنني أعتقد أنهم سيصلون حتماً إلى أن تربية الأبقار ظهرت في شمال أفريقيا أولاً؛ أعتقد أنهم لا يحبذون قول أن الأفارقة اكتشفوا معالم أساسية في تاريخ الإنسان مثل الرعي والزراعة والأهرامات. لقد قال أنيس منصور إن الأهرامات بناها فضائيون!! أمتلك رسماً لبقرة لها قرنان وجدت في الصحراء الكبرى يعود تاريخها إلى عشرة ألف عام؛ آخذين في الاعتبار الهجرات التي تحدثنا عنها. لذلك أعتقد أن الرعي والزراعة انتقلت كثقافة حتى وصلت الهند. أما فيما يتعلق بأوربا، فإنها - بأي حال من الأحوال - لم تكن منطقة جرداء وغير قابلة للعيش حتى قبل خمسة ألف عام. هنالك جين نجده عند المجتمعات الرعوية يسمح لها بتناول الحليب ومشتقاته بعد سن الخامسة، دون أن تتسبب في مشاكل صحية. وقد أثبتت هذه النظرية على قبائل البجا والفولاني في السودان والذين لديهم ذات الطفرة الجينية الموجودة في فلندا. لقد أحدث الانتقال من الجمع والالتقاط إلى عالم الرعي والزراعة المستقر تغيرات في التركيبة الديموغرافية للإنسان. إن المجتعات الزراعية هي مجتمعات منفجرة سكانياً، وعلى العكس من ذلك المجتمعات الرعوية. ومع المجتمع الزراعي ظهرت ما يسمى الدولة المدينة، كرمة مثالاً. وبالتالي بدأت الأمراض والأوبئة في الظهور إلى السطح. لقد اكتشفنا عبر دراسة أن مرض الكلازار بدأ في السودان وفي منطقة الدندر على وجه التحديد، وانتقل بذات الطريق الذي استخدمه الإنسان للخروج من أفريقيا، وهذا دليل آخر على هذه الهجرات؛ إذ إن الميكروبات والجراثيم تنتقل مع الإنسان؛ والتي هي بطبيعة الحال تُحسب من ضمن تنوع الحياة التي نشأت في إفريقيا التي بقيت بمعزل عن التغيرات المناخية العالمية الكُبرى.
الأداة الجديدة وختام الندوة
بعد ذلك تحدث بروفيسور منتصر عن ظهور الكتابة، وما انعكس خلال تطورها على كتابة التاريخ الذي يعتقد أنه كُتب بغير نزاهة، تحاول أن تتجاهل مساهمة الأفارقة الذين صاروا مادة بحثية للثقافة الأوربية. وتناول كتاب أثينا السوداء لمارتن برنارد، وما كشفه عن أصل اللغة الإغريقية التي تعود إلى اللغة الكنعانية ومعلومات عن مدافن كرمة والأبحاث التي تُجرى عليها. وعن ظهور الأمراض النفسية وتطورها، ومحارق اليهود، في درب وصفته الندوة بالألم.
هذا قليل من كثير قيم، تداولته الندوة التي صاحبها عرض بالبروجكتور لمجموعة من الصور واللوحات التاريخية والخرائط الجينية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.