على غير المتوقع لدغت الخرطوم من أقرب الأقربين – الاتحاد الإفريقي - وتجرعت بالأمس أقسى كأس لم تضعه يوما على قائمة حسابتها وهي تتقلب على مدى الأسابيع الأخيرة بين الحرب والدبلوماسية التي جعلت وزيرها الأول يشد الرحال إلى موسكو البعيدة أملا في الحصول على سند يفشل مشروع القرار الأمريكي الموضوع على طاولة مجلس الأمن، والقاضي في نهاياته بفرض عقوبات على الخرطوم وجوبا ، دون أن يفلح مبتغاه ، فبالأمس قضي الأمر وصادق المجلس بالإجماع على المشروع الذي يتردد أن عرابته الأساسية كانت دولة جنوب إفريقيا ، برغم أن مندوبها أظهر رفضا للبند الخاص بالعقوبات إلا أن إحالة الاتحاد الإفريقي للمشروع إلى مجلس الأمن وضع كل حلفاء الخرطوم على محك صعب ، وذات التصرف من الاتحاد الإفريقي الذي كانت تعتبره الحكومة أكبر سند وحليف أربك الدبلوماسية السودانية على نحو يصعب إخفاؤه، ولم يتردد وزيرها على كرتي فور صدور القرار بالإحالة في إعلان رفض الخرطوم تدخل مجلس الأمن وأبدى يومها تمسكه بالآليات الإفريقية وثقته في ما تخرج به من قرارات ، لكن وزارة الخارجية عادت لتعلن قبل يومين موافقتها المبدئية على خارطة الطريق المرسومة من مجلس السلم الإفريقي والتي أحيلت إلى المجلس الدولي برغم تحفظات محددة بعث بها وزير الخارجية علي كرتي إلى مفوض المجلس الإفريقي جان بينغ الاحد الماضي. وبحسب المتحدث باسم وزارة الخارجية العبيد مروح فإن تلك الملاحظات تضمنت دفع الاتحاد الإفريقي بخارطة الطريق للدولتين وطلب الرد عليها، وفي نفس الوقت أحالها لمجلس الأمن لينظر فيها.. واعتبر النظر في موضوع واحد بذات التوقيت على طاولة منظمتين- الاتحاد الإفريقي والأممالمتحدة - ليس مناسبا طبقا للمروح، ويضيف إما أن يترك للاتحاد الإفريقي أو يذهب لمجلس الأمن ، مبديا قناعة الخرطوم بأفضلية الآلية الإفريقية للنظر في قضايا البلدين ، ويضيف المروح بأن الحكومة السودانية أبدت أيضا تحفظا على الأسلوب الإجرائي لأن الاتحاد الإفريقي وسيط وليس حكما في النزاع، وبالتالي ليس بمقدوره إجبار أي من الطرفين على إحالة قضيتهما إلى طرف آخر دون رضائهما. وبعيدا عن تحفظات الخرطوم وتوجساتها كان مشروع القانون يطبخ على نار هادئة فالولايات المتحدةالأمريكية التي ترأس مجلس الأمن لهذا الشهر اجتهدت مندوبته سوزان رايس لتنهي فترتها بقرار قوي، وكان لها ما أرادات بتبني أعضاء المجلس الخمسة عشر، مطالبة السودان وجنوب السودان بوقف الأعمال العدائية خلال ثمان وأربعين ساعة وحل خلافاتهما ضمن مهلة ثلاثة أشهر تحت طائلة عقوبات. ودعا المشروع الدولتين إلى «استئناف المفاوضات بدون شروط» تحت رعاية الاتحاد الإفريقي حول جميع النقاط الخلافية وخصوصا تقاسم العائدات النفطية، وإنجازها في مهلة ثلاثة أشهر. وهو نص ما ورد في خارطة الطريق الإفريقية والتى لم يجرعليها تعديل كبير. واللافت أكثر في مشروع القرار المجاز بالأمس هو الاعتراف الدولي بالحركة الشعبية قطاع الشمال، حيث نص القرار صراحة على أن تتعاون الحكومة السودانية و قيادات قطاع الشمال مع الإيقاد والآلية الإفريقية رفيعة المستوى بقيادة ثامبو أمبيكى بغية الوصول إلى تسوية على طاولة التفاوض على أساس الاتفاق الإطاري بشأن الشراكة السياسية الموقع في 28 يونيو 2011 بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية قطاع الشمال، وهو التفاهم الذي أبرمه مساعد رئيس الجمهورية نافع علي نافع مع رئيس الحركة مالك عقار في أديس لكن المؤتمر الوطني تراجع عنه وقتها ما قاد إلى اشتعال الحرب بشكل أكثر ضراوة ، ويضع هذا البند الخرطوم أمام تحدٍ كبير، خاصة وأنها أعلنت قادة الحركة الشعبية في الشمال مطلوبين أمام العدالة وعممت بشأنهم مذكرات توقيف إلى الانتربول الدولي الذي تلاحظ أنه لم يتفاعل مع تلك النشرات سيما وأن ذات القيادات تتحرك بين العواصم بحرية ملحوظة ، كما أن زعامات الحركة الشعبية ستشعر بحرج بالغ أمام حلفائها من قيادات دارفور في تحالف «الجبهة الثورية» الذين تواثقت معهم على عدم التفاوض مع حكومة الخرطوم وأعلت جميعها من خيار الإطاحة بالنظام. ولم يغفل قرار مجلس الأمن الدولي دعوة الحركة قطاع الشمال والحكومة إلى قبول الاقتراح المقدم من الأممالمتحدة والجامعة العربية والاتحاد الإفريقي بتسهيل إيصال المساعدات الإنسانية للمتضررين من الصراع في جنوب كردفان والنيل الأزرق وأن تكفل الأطراف الحماية وسهولة الحركة للعاملين الأمميين ليصلوا إلى كل المناطق دون عوائق. وكانت روسيا والصين، البلدان الشريكان للسودانين واللذان يشتريان منه النفط، أبدتا تحفظات في البداية لكنهما انضما إلى القرار في نهاية المطاف. وفي 24 أبريل الماضي أمهل مجلس السلم والأمن التابع للاتحاد الإفريقي الخرطوم وجوبا أسبوعين لاستئناف المفاوضات وثلاثة أشهر لإنجازها. ودعا الأممالمتحدة إلى دعم تحركه بموجب الفصل السابع من ميثاقه الذي يقضي بتدابير ردعية لتطبيق قرار في حال وجود تهديد للسلام. ويطلب القرار من البلدين «وقف كل الأعمال العسكرية على الفور بما في ذلك عمليات القصف الجوي» والالتزام بذلك رسميا لدى الاتحاد الإفريقي والأممالمتحدة «في غضون ثمان وأربعين ساعة على أبعد تقدير». كما أن على البلدين سحب قواتهما المسلحة إلى جانبهما من الحدود ووقف دعم المجموعات المتمردة الناشطة على أراضي البلد الآخر. وخلال أسبوعين على السودانين سحب قواتهما من منطقة أبيي المتنازع عليها. وأضاف النص أن عليهما «استئناف المفاوضات من دون شروط» برعاية الاتحاد الإفريقي حول كافة نقاط الخلاف خصوصا تقاسم العائدات النفطية وترسيم الحدود المشتركة. وأضاف النص أن هذه المفاوضات يجب أن تجري «خلال الأشهر الثلاثة التي تلي تبني هذا القرار». وفي حال لم يلتزم أي من البلدين بالقرار يعلن المجلس «أنه يعتزم اتخاذ تدابير إضافية بموجب المادة 41 من ميثاق الأممالمتحدة». وهي المادة الواردة في الفصل السابع من الميثاق وتنص على استخدام وسائل ضغط كعقوبات اقتصادية أو قطع العلاقات الدبلوماسية. ويشير القرار إلى أن «الوضع الحالي على طول الحدود بين السودان وجنوب السودان يطرح تهديدا خطيرا على السلام والأمن الدوليين». وأكدت السفيرة الأميركية في الأممالمتحدة سوزان رايس أمام مجلس الأمن أن البلدين «غالبا ما قطعا وعودا ولم يفيا بها» وأنه سيحكم عليهما من «أفعالهما». وذكرت بأن النزاع «يكاد يتحول إلى حرب مفتوحة وطويلة» مضيفة أنه «يجب وقف المعارك وفورا». واعتبر مساعد الممثل الدائم لفرنسا مارتان برينز أن القرار «يرسم خطا واضحا للخروج من الأزمة وأنه أصبح الآن على الجانبين في السودان التطبيق الفوري لمطالب مجلس الأمن». ويبدو جليا أن قرار مجلس الأمن سيثير أزمة عاصفة بأروقة الحكومة والحزب الحاكم، فحالة الرفض المغلظ للتفاوض مع قطاع الشمال صدرت من كابينة القيادة العليا في الحكومة والحزب، كما أن التفاوض مع دولة الجنوب رهن بتسوية ملفات الأمن وهو ما تضمنه القرار الأممي على عجالة حين طالب بوقف العدائيات خلال 48 ساعة دون الخوض في ملفات أمنية شائكة بين البلدين، كما أن المتشددين في الحكومة ومسانديها أصحاب التأثير القوي على القرارت الكبيرة لن يهدأ لهم بال حال جلس المتفاوضون على الطاولة في أديس يحاورون باقان أموم من جهة ومالك عقار وياسر عرمان وعبد العزيز الحلو من جهة أخرى، والموقف في كل الأحوال سيكون غاية في التعقيد. ويعتقد رئيس كتلة نواب المؤتمر الوطني بالبرلمان غازي صلاح الدين أن قرار مجلس السلم الإفريقي حول الأوضاع المتأزمة بين السودان والجنوب، ساوى بين الجاني والمجني عليه، خاصة وأنه صنف «هجليج» بأنها منطقة متنازع عليها وهو ما ينطوي على «خبث». ويؤكد في حديث أمام البرلمان أمس ما ذهب إليه المروح بأن السودان لم يحتكم إلى الاتحاد الإفريقي وإنما وسَّطه، وزاد «لا يمكن أن نصادق على أي قرار دولي يصادر حق الشعب السوداني» واعتبر القرار مملوءاً بالمزالق والمخاطر والشراك، وشدد على ضرورة إبعاد منظمة الإيقاد من ملف العلاقات بين الدولتين، مؤكداً أن اختصاصها في التنمية بينما المبادرة يقودها الاتحاد الإفريقي.