تحرك التاريخ البشري في زوايا عدة من أماكنها بحثاً عن الأمان الجماعي للمجموعي البشري, وشهد بذلك تحوله في عدة أشكال لعلاقات الإنتاج, كان معها أن تحورت أشكال تكون مجتمعاته عبر ذلك الى مجتمعات بديلة بأشكال تحاور وتعامل تفرضتها قوى الإنتاج, فخضع عبر ذلك من هم أقل درجة في علاقة الإنتاج الى من يمتلكون وسائل الإنتاج ملكاً وراثياً أو تحديداً فعالياً، بمعنى تحركهم عبر استفادتهم من السلطات السياسية والدينية في المنطقة المعينة التي تمنحهم عبر ذلك وسائل الإنتاج, إلا أننا في خضم ذلك يجب ألا ننسى أن هنالك تشكلات أخرى بديلة تحافظ على شكل الصراع بين الطبقات في علاقات الإنتاج المنتجة بديمومته كما إنها تحافظ على وتيرته, فيكون لتلك التشكلات القدرة على إنتاج خطابات متوازية, أي قدرة على إنتاج وسائل حوار وتعايش وتعامل ثقافي ووراثي من تزاوج وتعاشر, ومن هذه التشكلات تشكلات القبيلة التي هي قمة القدرة الإنسانية على الحفاظ على الانتماء الى الجذر الثقافي المشكل عبر السنين في الحياة واللغة والثقافة وطرق الفكر والتعامل والعادات والتقاليد, يحدث في بعض الأحيان أن ترتفع أصوات القبلية على أصوات الصراع الطبقي التي هي بطبيعتها أكثر حدة, فتختفي الفروق الطبقية داخل القبيلة الواحدة لمصلحة الصراع مع القبيلة الأخرى ويكون ذلك في حالة التحارب بين القبائل التي تحمل في ذاتها طبيعة طبقية, إذ تعمل التشكلات السياسية وعملية الحفاظ على التفارق الطبقي من أجل مصلحة اكتساب أموال أكثر يعمل ذلك على إفقار القبائل التي لها تاريخ في العمل كقبائل غير ممتلكة لوسائل الإنتاج الكبيرة وتعمل كقبائل منتجة, تحافظ الرأسمالية عند الدولة على إفراغ البلاد من التعدد الثقافي لمصلحة الثقافة التي تمثلها, وتنتج بذلك شكل تعامل وخطاب أحادي, وربما تصعب كلمة خطاب على أحد إلا أنها هي مجموعة المنتج الثقافي والفني والاجتماعي والإنساني الذي تنتجه مجموعة بشرية في فترة معينة تحت ظروف معينة كما عرفه بذلك المفكر الفرنسي ميشيل فوكو, هذا العمل المتواصل من الطبقة الرأسمالية للدولة على إنتاج ثقافة احادية يدفع الثقافات الأخرى للتخندق حول نفسها والخوف على نفسها من الضعضعة والمناوشات فتعمل على محاورة الثقافة التي استعلت حتى وإن حدث أن فقدت الثقافة المهضومة الحقوق وسبل الحوار والنضال مع الثقافات المستعلية تلوذ الى نفسها مشكلة أوجه عمل وأجسام تعمل على إزكاء ثقافتها وإعلاء شأنها كثقافة لها حق الوجود, ويمكن القول ببساطة لا يغالبها الأمر أن في ذلك خضوع لشروط الصراع التي تصنعها الثقافة الاستعلائية ولطريقة إدارة تلك الثقافة للصراع دفع به الى أفق ضيق من الحوار والمشاكسات والدخول في تفاصيل بها الكثير من الخطأ في حق شعب واحد يريد أن يجمع صراعاته ويعمل على تضميد جراحه . الثقافة الإسلامية العربية التي أخذتها سلطة الإنقاذ وسيلة للعمل وطريقة للحياة في السودان, كان فيها إجحاف كبير للثقافات السودانية الأخرى وطرق الحياة التي تعيش بها تلك الثقافات, بينما عملت سلطة الإنقاذ على الإعلاء من الثقافة السنية الحادة للجزيرة العربية على حساب الثقافة الصوفية التي كان يعمل بها أغلب عرب السودان, فبذلك أنتجت سلطة الإنقاذ ثقافتان هي ثقافة غير شاملة في جذورها لثقافة أطراف السودان, وثقافة غير مشابهة في طبيعتها لثقافة التصوف والأخذ العفوي في الحياة الذي يميز شخصية وسط السودان, كان نتيجة ذلك كثير من المناوشات التي حدثت وحرصت الإنقاذ على إخماد كل الأصوات المنادية عبر اللحظة والأيام على التعبير عن طريقة تفكيرها التي تنتجها ثقافتها, فكان أن اختفت نتيجة لذلك الطبيعة الطبقية للنظام كنظام هو نظام رأسمالية دولة طفيلية تأخذ من أموال الشعب وثرواتها لتكنز في خزاناتها, وبذلك انتقل الصراع ليكون بين الناس في سحناتهم وثقافاتهم وأشكال تعبيرهم, كما إن الإنقاذ ساهمت كثيراً في التقليل من الثقافات غير العربية عبر الإعلام المباشر بكل قوة عين وتبجح في شكل لا ينتمي لأقل أشكال تكوُّن الدولة المنتظمة التي يجب أن يكون فيها الحياد شأن أجهزة السلطة ومنها الإعلام, كل هذه السنين من السخط أنتجت صراعاً في غير مكانه إلا أنه متملك لاستطاعة البشرية من التحمل والتعامل البشري بين الناس, يجب علينا التنبيه بأن لا تقع الأجسام الثقافية والإبداعية في مأزق الدخول للصراع مع السلطة في صراعات الثقافة وأكثرها جدوى وقدرة على التعبير, إذ إن كل ثقافة تنتج ما يجيب على أسئلتها التي تنتجها ظروفها من جغرافية تداخلات, وغير ذلك فإن الاعتراك بمعترك أي الثقافات حاسماً لصراع هو في عمق التفاصيل المهلكة وليس في موضع ومكان الحسم السياسي الذي مكانه الوحدات السياسية من نقابات واتحادات وأحزاب وأجسام سياسية تعمل على تنشيط الوعي السياسي بالحقوق وأولها حق الحرية. كما أن هنالك أجسام ثقافية عملها إعادة الخط دوماً والمحافظة عليه خطاً حوارياً يعمل على إنتاج ثقافة ديمقراطية تعمل على خلق التحاور الفعلي والعملي المتواصل بين الثقافات عملاً ضد ثقافات الاحتراب والتهميش والتقليل من الآخر.