«1» ٭ على الرغم من ان عمر الوسائط المتعددة كحالة تقنية ومصطلح اقل كثيراً مين مصطلح «الثقافة»، إلا ان المصطلح الجديد قد يكون اقل التباسا من القديم. لم نزل نختلف على مفهوم الثقافة، وستظل هناك اجتهادات مختلفة للتعريف.. هناك الثقافة بوصفها مرادفاً للتعليم، والثقافة بوصفها منتجاً تقوم به نخب من الفنانين والأدباء المفكرين، وهناك المفهوم الأشمل والأعم للثقافة بوصفها طريقة للحياة والسلوك. والوسائط هى الناقل أو الوعاء، والثقافة هى المحتوى، ولذا فالعلاقة تكاملية، لا ناقل بدون محتوى ولا محتوى يمكن ان يصل بدون ناقل أو وعاء، ومن ثم فإن التفكير في هذه العلاقة يقتضي منا التركيز على أفضل توظيف لهما. «2» ٭ يبدو أن الخوف هو إحدى السمات العالمية للنخب، وليس شيئاً خاصاً، فقد واجهت النخب الغربية بداية البث التلفزيوني في اواسط الاربعينيات بالكثير من التخوف. وكتب مفكرون مرموقون كتباً حول « عصر الصورة» وما ينطوي عليه من استعراض ينافي الثقافة الرصينة، أو ثقافة الكتب، وتصاعد هذا الخوف مع مولد الفيديو وانتشار كاميراته في ايدي الهواة، بالإضافة الى كاميرات الفوتوغرافيا التي تسارع تطورها وتزايدت شعبيتها مع رخص سعرها وانتاجها على نطاق واسع، واستمر هذا الخوف من الصورة حتى منتصف التسعينيات، وقد لحقنا به متأخرين. ولم نتآلف مع خوفنا من الصورة حتى اكتشفنا أن الشاشة المتهمة بنشر سهولة وسطحية الصورة في جهاز التلفزيون، هى ذاتها الشاشة التي عادت الى الكلمة في جهاز الكمبيوتر، وما لبث هذا الجهاز ومن بعده الهاتف النقال أن افسح مجالاً للصور بجوار النص. السينما مثلاً في بدايتها واجهت خوف المسرحيين على «اصالة المسرح» والتلفزيون استقبلته نبوءات بأنه الوسيلة التي جاءت لتقضي على «أصالة السينما»، والكاميرا بوصفها القاتل الذي جاء ليقضي على الفن التشكيلي، ولكن هذه المخاوف لم تكن في محلها، حيث لم تلغ الوسيلة الجديدة سابقتها، وإنما جاورتها، وتسببت في تطويرها لأن المنافسة جعلت كل وسيلة تبحث عن خصوصيتها، فاحتفظ المسرح بميزة المواجهة الحية مع الجمهور واختلاف العرض بين ليلة وليلة حسب نوع الجمهور واستجاباته، كما قدمت السينما المشاعر الدقيقة والصمت الذي قد لا يكون فعالا? كفاية في المسرح، كما وجدت شاشة التلفزيون لقطتها المقربة، واضطر الفن الى رسم ما هو اعمق من الملامح الخارجية عند رسم البورتريه، والى اللعب بالضوء والظلال، وكل ما يميزه على الفوتوغرافيا التي ظل طموحها الى اليوم الاقتراب من روح اللوحة، أى روح الاصل. إن المطلوب هو التعامل بمعلمية ومنطقية واضعين في الاعتبار ان ما يحدث لا يمكن ايقافه أو تجاهله. ويجب تسخير كل الامكانات للانخراط في هذا العالم، وتوفير الطاقات البشرية والامكانيات العلمية التي تجعل منا بوصفنا عرباً فاعلين وقادرين على التأثير بقدر قدرتنا على التأثر، وما الطريقة التي تعامل بها شباب الربيع العربي في استثمار هذه الوسائل الحديثة لخدمة امتهم وتطلعاتها، إلا نموذج لما يجب ان تكون عليه كيفية التعامل مع هذه الوسائل. «3» ٭ وإذا ما تأملنا الحال الآن نجد أننا ربما نعيش افضل عصور التواصل في التاريخ الانساني، ولم نزل نتقدم باتجاه المزيد من السهولة والمزيد من اختصار الجهد، واذا ما تعمقنا أكثر نجد ان الكلمة ليست منفصلة عن الصورة في يوم من الايام، وكل الابجديات القديمة هى في الاصل صور، ولم تزل هناك ابجديات تعتمد في حروفها المصورة اكثر من رمزية الحروف والارقام، مثل اللغتين اليابانية والصينية، وحتى عندما مالت الكثير من اللغات الى الرمزية في اشكال تواصلها، ظل المخ الانساني يفكر من خلال الصور. وهذه الحقيقة، حقيقة التفكير بالصور، ادرك?ا ارسطو الذي ادرك استحالة التفكير من دون صور، فهل ما خافه مفكرون من امثال رولان بارت ويجيس دوبرييه كان الصورة أم طغيانها الذي لا تصنعه الصورة نفسها، بل ينتج عن سرعة تدفقها؟ وهل تظل سرعة التدفق المتناهية الآن مخيفة قياساً على حقبة النصف الثاني من القرن العشرين التي كان تدفق صورها محكوماً بمؤسسات كبيرة محدودة العدد، أم ان ذلك المعدل الجديد من تدفق الصور قد اصاب عين المتلقي بالشبع وساعدها على الانتقاء؟ الامر بحاجة الى قياسات علمية واستبيانات حول الاستخدامات المختلفة للوسائط الجديدة قبل الاجابة، لكن بوسعنا العودة الى مفهوم أو مفاهيم الثقافة الاساسية، لنرى أى اثر يمكن ان يحدثه عصر الوسائط المتعددة على الثقافة العربية. «4» ٭ إن الثقافة بوصفها انتاجاً فنياً وفكرياً، هى المعنى الأشهر الذي ينصرف اليه الذهن عند سماع كلمة «ثقافة»، وهو المعنى الذي يخشى الوسائط المتعددة اكثر من غيره. والبعض اعتبر ان وضع الكاميرات الديجتال عالية الجودة بسعر في متناول شريحة كبيرة من الناس وسهولة عمل المونتاج على الكمبيوتر، يمكن ان يدمر جماليات السينما ويؤثر على صناعتها، ولكن العكس هو الذي حدث، حيث استطاعت افلام الديجتال ان تساهم في انقاذ صناعة السينما التي واجهت تحدياً كبيراً بسبب تطور شاشات العرض المنزلي ومولد قنوات الافلام والدراما. كما ان هذا النو? من الافلام ساعد على ضرب احتكار الشركات الكبرى وتحقيق نوع من الديمقراطية في الانتاج السينمائي. وعندما نتحدث عن ضرب الاحتكار نعني بذلك الاحتكار الفني للشركات التي يمكن ان تفرض اتجاهاً محدداً وجماليات تناسبها، كما نعني كسر الاحتكار السياسي من حيث الرقابة وقوائم المحظورات التي تلتزم بها شركات السينما الكبيرة التي تسيطر عليها اللوبيات ذات التوجهات السياسية. يحدث هذا في امريكا، مثلما حدث في مصر التي شهدت معارك سينمائية سياسية حول بعض أفلام الديجتال التي يمكن ضمها الى الكتابات التي مهدت للثورة. ويمكننا ان نضع عنواناً للخوف من الوسائط المتعددة على الثقافة بوصفها منتجاً، بوصفه خوفاً من عدم الاصالة، ومثلما خاف بعض السينمائيين من أفلام الديجتال خاف بعض الكتاب من ظاهرة التدوين وسهولة النشر الالكتروني التي جعلت كل من هب ودب كاتباً. «الاصالة» هى دائماً من حظ القديم، وعداء الاصالة هو تهمة الجديد دائماً، ولكن التهمة نفسها ليست جديدة. «5» ٭ هذا الخوف يخص المثقفين بوصفهم منتجين حصريين للمادة الثقافية، أما اذا نظرنا الى الثقافة بوصفها طريقة حياة وسلوك في المآكل والمشرب والملبس والممارسة الثقافية، فإنها بهذا المعنى مفهوم يشمل كل الجماعات البشرية على تنوعها ومهما اختلفت حظوظها من الامية والتعليم. وهذا المجموع اقل حساسية وأقل تطويراً من الوسائط المتعددة، ينخرط في استخدامها بلا عائق إلا عائق الدخل الذي يحدد المستوى التكنولوجي للفرد، والذي خلق مع الوقت ما يمكن أن نسميه «طبقية تكنولوجية». ولا شك أن الطبقة العليا من مستخدمي تكنولوجيا الوسائط المتعددة هى التي أطلقت شرارة التغيير في كل البلاد العربية، وبعد ذلك لحقت بها الطبقات الاخرى الاقل رقمنة والأكثر احتجاجاً. شباب الوسائط المتعددة هم الذين اتصلوا بالعالم وتثقفوا عبر الصورة والكلمة، وعرفوا طرائق عيش مختلفة وقيم مختلفة. وعبر الكلمة والصورة نظموا أنفسهم في الفضاء الافتراضي، وسرعان ما وجهوا الى بعضهم البعض الدعوات للوقفات الاحتجاجية والاعتصامات التي بدأت في تقويض أنظمة الاستبداد. هؤلاء الشباب مستهلكون للمواد الفيلمية والنصوص الفكرية والاخبار وهم منتجوها أيضاً، وقد تحولت الصور التي التقطوها لمقتل الشاب خالد سعيد في مصر وإحراق الشاب محمد البوعزيزي لنفسه في تونس إلى وقود للثورتين. ومن يتابع موقع اليوتيوب يجد ابتكارات هؤلاء الشباب سواء بالانتاج الكامل لافلام قصيرة أو بتوظيف التراث الدرامي في مواجهة مواقف سياسية محددة. وفي مجال الاغنية صنعوا الشيء نفسه، حيث انتجوا غناءهم الاحتجاجي الخاص، كما استعادوا تراث الاغنية السياسية في كل بلد من البلدان، كما اعادوا نشر الكثير من النصوص الداعية الى الحرية. وبدلاً من أن نرى الوردة رأينا شوكها. وتحدث البعض بخوف شديد على حقوق الملكية الفكرية في مواجهة ظاهرة نسخ الاعمال، واعتبروا ان شيوع المادة الثقافية مجاناً يحد من قدرة المؤلفين في المجالات المختلف? على مواصلة نشاطهم. وعلى الرغم من مشروعية الحديث عن حقوق الملكية الفكرية، فإن هذا لا يجب ان يكون مبرراً لغلق الابواب وحجب طاقات النور الثقافية، بل الأوقع أن تجد وزارات الثقافة العربية طريقة لدعم الإنتاج الثقافي، وتعويض منتجي الثقافة عما يمكن ان يلحق بهم من أذى مادي بسبب تداول انتاجهم مجاناً. «6» ٭ في كتابة «ميديا أكيف» يشير دان غيلمون وهو استاذ محاضر للصحافة والاتصال الجماهيري في جامعة ولاية ارزيونا، الى عدد من المبادئ الاساسية الضرورية كي يصبح المرء مستهلكاً نشطاً لوسائل الإعلام التفاعلية في يومنا الحاضر. - كن مشككاً في كل شيء. - قم بدور الحكم. - افتح ذهنك. - اطرح اسئلة. - تعلم تقنيات وسائل الاعلام الجديد. وهى بظني مفيدة حتى للمثقفين والعاملين في المؤسسات الثقافية، لفهم عقلية الشباب مستهلكي وسائل الاعلام الجديد اذا ما قررنا اننا بحاجة للاقتراح منهم اكثر. إن دولة قطر تعمل وفق رؤية استراتيجية تغطي التنمية من جميع جوانبها حتى 0302م، وتلي هذه الخطة استراتيجية وطنية حتى 6102م. وقد احتلت الثقافة مكانها اللائق بها في هذه الاستراتيجية لتشكل محوراً مهماً يأخذ حقه من الاهتمام شأن محاور التنمية الاخرى، وتلى ذلك وضع خطة تنفيذية من قبل وزارة الثقافة والفنون والتراث والمؤسسات الثقافية الاخرى. واستطيع ان اقول إن من ثمار الدوحة عاصمة للثقافة العربية 0102م تجذر الوعي بأهمية الثقافة، بحيث لم تمر هذه المناسبة مرور الكرام، بل كان لها دورها في تسليط الأضواء على الثقافة وانجاز بنية تحتية ثقافية تجعل من الدوحة احدى عواصم الثقافة العربية عربياً ودولياً، كما أن من ثمار الدوحة 0102م أن كان هناك حراك?ثقافي لم يتوقف، بل تعددت وسائله والجهات القائمة به. ويجب أن نشير باعتزاز لدور مؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع، باعتبارها منارة علمية ثقافية ومصدر إشعاع بجامعاتها، وما تقوم به من انجازات وجهد متواصل له مردوده الثقافي والعلمي، والتفاعل مع الثقافات الاخرى. ومن ذلك دور دولة قطر في حوار الحضارات، وكذا الامر بالنسبة لهيئة متاحف قطر. ونعتز بمتحف الفن الاسلامي ومتحف الفن الحديث، والعمل قائم على متحف قطر الوطني ومتاحف اخرى متخصصة. ولا يمكن إلا أن نشير إلى الحي الثقافي «كتارا» الذي اصبح صرحاً ثقافياً محلياً وعربياً ودولياً، وأصبح مصدراً ومقراً لحراك ثقافي مستمر. وتقوم وزارة الثقافة والفنون والتراث بأداء رسالتها وفق دورها في الرؤية الوطنية والخطة الاستراتيجية من اهتمام بالمسرح والموسيقى والفن التشكيلي والكتاب والندوات والمحاضرات، وغيرها من مفردات الثقافة المحلية والعربية والعالمية. وأريد أن أتوقف عند هذا الجمع المبارك لأتحدث عن مجلتي «الدوحة» و«المأثورات الشعبية». إن مجلة «الدوحة» صدرت في السبعينيات، وكانت إحدى ابرز المجلات العربية، ولأسباب كانت في حينها توقف صدورها حتى أعدنا صدورها من جديد منذ ست سنوات. ولكن العمل الناجح يحتاج إلى التطوير وإعادة النظر، وفي الستة شهور الأخيرة أعيد النظر في مجلة «الدوحة» وتم تغييرها شكلاً ومضموناً، مما جعلها اكثر تأثيراً وقبولاً. واقدمنا على إصدار كتاب شهري مع «الدوحة» يختار بعناية بحيث تسلط الاضواء عليه نظراً لأهميته وتعريف الاجيال الجديدة أو ارتباطه بحدث تعيشه الأمة. فكان كتاب «طبائع الاستبداد» لعبد الرحمن الكواكبي. وتلته كتب أخرى مثل كتاب «أصول الحكم في الإسلام» لعلي عبد الرازق، وتلته كتب أخرى على نفس الدرجة من الأهمية، وسنقوم بترجمة كتاب من فترة لأخرى من اللغات الاخرى ليوزع مع المجلة. وادركنا أن أية مطبوعة مهما بلغ حجم توزيعها بالوسائل التقليدية تبقى محدودة التوزيع، لذلك ستتوفر مجلة «الدوحة» قريباً على الانترنت لتتاح للقارئ في كل مكان. كذلك ستكون هناك طبعة في القاهرة لتغطية مصر ودول شمال افريقيا واوربا. وقد اعدنا إصدار مجلة «المأثورات الشعبية» التي كان لها دورها في السبعينيات، وسيكون الى جانبها في كل عدد كتاب من التراث. إن المسيرة مستمرة، وإن الدوحة مثل شقيقتها الشارقة ستبقى عاصمة للثقافة العربية.