من الطبيعي أن تفجر سياسة الدولة الاقتصادية والتي اعتمدت فيها على تعويم الدولار جدلاً استحوذ على اهتمام الرأي العام بين من جذبه تفاؤل المسؤولين ولم يكتشف أنه تلقى الطعم بانتظار يوم موعده لن يكون بعيداً عندما يفرض الواقع الجديد نفسه، وبين من سيطر عليهم التشاؤم لقدرتهم على قراءة الوضع المأساوي الذي يمثل النهاية الحتمية لهذه السياسة الجديدة التي جاءت مفاجئة ومخيبة لكل التوقعات. أسئلة كثيرة لابد أن تطرح نفسها ولابد أن تخضع للدراسة ولعل أهمها: 1- هل بُنيَ هذا القرار على رؤية اقتصادية أم أنه قرار مرحلي عشوائي أملته ظروف سياسية من أجل حل وقتي قصير المدى تتبعه ظروف اقتصادية أسوأ مما كان عليه الحال، ولهذا يفتقد الإستراتيجية؟؟ 2- كيف تتلقى الدولة مليارات الدولارات لدعم الجنيه السوداني فتوجه لتدميره بدلاً عن دعمه؟ 3- هل ينصلح حال الجنيه السوداني وحارسه بنك السودان أصبح أكبر تاجر عملة في السوق الأسود بعد أن أصبح أكبر ممول للصرافات بسعر السوق الأسود وماذا سيفعل البنك لو ارتفع سعر الدولار في السوق الأسود؟ فهل سيجاريه بعد أن أصبح جزءاً منه؟ 4- إذا كان المعيار لأي قرار حكومي مصداقيته في أن يخفف العبء على المواطن العادي ويرتفع بمستوى معيشته فهل يرفع هذا القرار العبء عن المواطن أم أنه سيضاعف الحمل عليه؟ 5- هل يملك بنك السودان أن يحول دون استيلاء كبارات تجار العملة من أن يمتصوا هذا المليارات ويودعونها خزائنهم ليستنزفوا ما تلقاه من دعم وتخلو خزينته ليفردوا سطوتهم على الدولار ويفرضون أسعارهم خاصة وأنهم سيتلقفون ما يتاح من الدولار وليسوا في عجلة من أمرهم حتى يخلوا لهم الجو بعد أن أصبحت المليارات متاحة لهم بأقل مما كانوا يدفعونه في السوق الأسود وهو ما يفعلونه الآن في السكر وغيره؟ 6- ثم ماذا بعد أن يستنزف البنك ما تلقاه من دعم والذي لا مناص من أن ينقطع يوماً فهل بنيت سياسته على بديل دائم وما هو حساب الزمن في هذه الحالة وعلى أي أسس بنيت توقعاتهم المتفائلة؟ 7- هل ما فعله بنك السودان هو الأفضل تحت الظروف المتاحة أم أن هناك خيارات أفضل كان يتعين عليه دراستها؟ حقيقة هذا قليل من التساؤلات التي يتعين الوقوف فيها بتروٍ والتي يتعين على بنك السودان أن يكشف عن قراءته العلمية لها إن كانت هذه السياسة خضعت لدراسة اقتصادية متجردة من الدوافع السياسية التي لا تمانع في الخروج من مأذق مؤقت حتى لو كان على حساب مأذق أكبر يأتي بعده. بعيداً عن الجدل العلمي من مختصين اقتصادياً والذين أبدى بعضهم رؤيته حول هذه السياسة، أرى أن هناك أموراً لن تغيب عن فطنة المواطن العادي لأنها لا تحوجه لأن يكون دارساً اقتصادياً أو صاحب خبرة سياسية نافذة، وعلى رأس هذه الأسئلة فماذا نتوقع من مواطن أعلمته الدولة رسمياً أنها تلقت مليارات من الدولارات لدعم الجنيه السوداني كما جاء في تصريحات المسؤولين فكيف له إذن أن يفهم أن سعر الجنيه الرسمي الذي استهدف الدعم الحفاظ على قيمته التي كانت ثلاثة جنيه وعشرين قرشاً مقابل الدولار فتنخفض قيمته بعد تلقي الدعم بالمليارات لما يقرب الخمسة جنيهات مقابل الدولار مما يعني أن قيمته الرسمية زادت انخفاضاً بما يصل أربعين في المائة فهل كان هذا الدعم لحفظ قيمته أم لتدمير هذه القيمة وهو ما حدث على صعيد الواقع؟ ثانياً كيف يفهم المواطن العادي أن بنك السودان الذي كان يبيع الدولار بسعر ثلاثة جنيهات يبيعه الآن بالسعر الذي كان سائداً في السوق الأسود بفارق بضعة قريشات عن السعر السائد فما هو الفرق إذن بين تاجر السوق الأسود وبين البنك. أسئلة بديهية تواجه المواطن وعندما يبحث عن الإجابة لها بعشوائيته فسيعرف الإجابة عندما يتجه للصرافة لسد حاجة أولاده الملتحقين بالجامعات في الخرج أو عندما يحوجه المرض للحصول على الدولار من أجل العلاح فيجد أنه سيدفع مالاً يقل عن أربعين في المائة زيادة عن ما كان يدفعه لنفس الدولار. لن أتحدث هنا عن ما سيلمسه من ارتفاع قيمة السلع في الأسواق التي يهيمن عليها الطامعون المستغلون له بعيداً عن الرقابة وهم تحت الحماية لأنهم من (الواصلين) الذين أحكموا قبضتهم على السوق إذن المردود المتوقع لدى المواطن العادي سيكون سالباً بكل المقاييس لهذا لابد أن تسيطر عليه الهواجس من دوافع هذه السياسة ولابد أن يسأل نفسه: ما دامت الدولة تلقت مليارات الدولارات لدعم قيمة الجنيه السودانى فلماذا لم يعلن البنك عن توجيه هذه المليارات للصرافات لتوفر الدولار بسعره الرسمي الذي كان معلناً لكل صاحب حاجة معترف بها وهي تعلم انها بتوفير الدولار بقيمته هذه سيوفر لهك احتياجاته بالسعر الرسمي ولا يصبح هناك مجالاً لتجار السوق الأسود ما دام الدولار توفر لدى الدولة وبهذه يحقق الدعم هدفه إن كان هذا هو المعني به بدلاً من أن تتجه الدولة لتوفير الدولار بسعر السوق الأسود الأمر الذي يعني إما أنها لم تتلقَّ هذا الدعم كما أُعلن عنه بهذا المستوى أو أن دافعها استنزاف المواطن لسد العجز الذي لا تملك وسيلة للسيطرة عليه فرأت أن توجه ما بحوزتها من دولارات لتتحصل قيمتها بسعر السوق الأسود حيث انها ستحقق الآن مبالع ضخمة من الجنيه السوداني من مبيعات الدولار أو إنها تريد أن تحل أزمتها برفع دخولها من عائداتها من السلع والخدمات التي كانت تقوم على قيمة الجنيه الرسمية وعلى رأسها ما تتحصله الجمارك اذا ما تم تحصيلها بسعر السوق الأسود للدولار بعد أن يصبح هو السعر الرسمي وإن كان هذا هو المردود لهذه السياسة فإن السؤال الكبير الذي يبرز هل هذه السياسة هي البديل لعدم رفع الدعم عن المحروقات برفع الدعم عن الجنيه نفسه وهو ما يحمل المواطن نفس ما كان سيتحمله لو رفع الدعم عن المحروقات وربما أكثر. ويبقى أخيراً هل هذا هو الحل الأفضل وليس هناك خيارات أخرى تصب في صالح المواطن الغلبان وفي صالح الاقتصاد؟ وهذا ما سأفرد له مقالة خاصة.