«الذين عبروا من هنا، خلفوا أرواحهم معلقة بين مسامات الأرض، أسمعُ اصواتكم هنا؛ بذات المكان» (6) (طوبى للحزانى.. لأنهم يتعزون.. طوبى للودعاء .. لأنهم يرثون الأرض.. طوبى للجياع.. والعطاش... إلى البر.. لأنهم يشبعون..) (إنجيل متي) (5) (العالم داكن .. متعرجٌ ورمادي) .. تحققت الرؤيا أخيراً.. أو هكذا ظننت.. وقفت مذعوراً، أحدق صوب جسد هائل يبارح رأسه المقدس، حين صرخت النهايات السحيقة، حاول إخراس صوت النداء بانتصابه، لكن التراب أعلنت نداءً هادراً، صوت التراب يعلو.. في الوقت الذي كان فيه يمرِّغ ذاته في فضاءاته الرمادية، ما كان عليه البقاء طويلاً – الرأس هنا ما عنيته – يحاول محاولات خجولة للتملص، يرتجف، يركل لا شيء هائل، يرتعش، كاد ينزع حبل جهنمي من رقبته المنزوعة، ما كان يدرك فخاخ الذاكرة، حينما حاول تحريك يديه، ما قاده لنسيان يديه المبتورتين. .. تدلى راجفاً، مدثراً بضباب حانق، وعاصفة الحريق تكتسح بشراسة، لم تكن تعنيه جنود النيران.. التي غبَّشت المساحة كلها، ليس الدخان ما كان يلهب انتباهه.. أصوات سابلة أقل جنوناً، واقفون، مشدوهون، وهم ينشدون غنائيته المقدسة، صُعقوا عندما رأوه، ما حرضَّهم على النشيد، نشيده.. /أوليس ثمة نشيد.. أكذوبته العظيمة، التي أغوته للبقاء طويلاً، أصواتهم تغريه، تحلِّق بعيداً، ترفرف في الأفق، صداهم يملأ العالم كله، تخترق السماء بتموجاتها المجيدة، ترتفع.. ثم ترتفع.. هتافاتهم العظيمة: (نحن جند الله.. جند ال.. إن دعا داعي الفداء...) لم يكن يعلم أحداً أن الجسد سيسمعه للمرة الأخيرة، ثم تنخفض الأصوات كلما اقترب الجسد من هاويته الملتهبة، تنخفض .. فتنخفض حتى تلاشت من الأفق، ما ذكرني بجنود سليمان الخارقين، إنهماكهم في حفريات ما، في الوقت الذي أعلن فيه سليمان الخروج إلى الميلاد السرمدي. (4) .. الجسد جنين الطين الأبدي.. والطين محراب الديدان وغواية الفخاخ. (3) استهلكتني الذاكرة، ركلتني، ما مرر هذيان الجد المنزوع من الحياة بمخيلتي– في إحدى غوايات الجسد – للتو علمت نبوءته، يعتلي صخرة شاهقة، وظلال المانجو تغني بموسيقى شفيفة، ماداً يديه الخشبيتين صوب جبل شاهق. بالكاد هو «توتيل» – وشفته اليابسة حافلة بانتفاخ شرس، لم يكن سوى فتوحات «ود السلطان»*. ثم أخذ يهذي بصوته المتآكل، ما كان هذياناً، جنود الله من أوشى له في إحدى مكاشفاته الخارقة، سارداً: (الجسد سوف يجد حتفه قريباً)، رأيته والحريق يلتهمه فوق هذا الجبل. الشيء الذي قاد أناساً خائفين يبارحون المساحة، ثم ينفجِّر الجد بضحكة كافية لإشعال امتعاض آخرين لم يكن تعنيهم هذياناته مطلقاً. (2) .. تدلى الجسد، متدحرجاً ببطء صوب الأساس، ما أعاد تركيزي، لم يكن جسداً، خنفساء ضخمة سوداء – ليس بالضبط لكن!! تعلمون من أعني جيداً. الأرض تشرع فوهتها البركانية، دوي مرعب يخرج منها، أركز، أحدق، أتأمل بأنثروبولوجيا هذا الكائن، ثمة زوايا منتفخة تفقأ عينيك، جمهرة التفافات كثيفة لأعشاب برمائية مهلكة، ما استفز البصيرة: عاصفة الضحك المرعبة؛ التي فجرها الجسد، وكأن الحريق لم يلفت انتباهه، في الوقت الذي اصطدمت عيناي بأطفال منهكين، بجماجم أسطورية، وذرات الأغبرة تكسو فيزياء أجسادهم المنهكة، ثمة إمرأة عجفاء، تحمل بيدين حجريتين، راعشتين صخرة هائلة، تتوقف، تلتفت صوب الحريق، رمتها في الأرض، جثت تحملق فيها، وكأنها تتعرف عليها للمرة الأولى (الأرضة جربت الحجر) قالتها ثم انهمكت في نبشها، إيماءاتها كافية لإسماعك عويل معدتها النافقة، حفرت بأصبعها، امتعضت وهي تواصل حفرياتها، بالكاد لم تجد خبزاً فيها، فالصخرة فجَّرت دماء لم تكن تتوقعها في يديها اليابستين، انتصبت، ارتعبت، وهي تحدق قطرات حمراء تبارح مكانها، تلاحظ سقوطها، تلعن الجسد – الذي قاد المساحة لذلك – ثم تحدِّق صوبه تشهد أفوله متلاشياً في الأفق، منطفئٍ وإلى الأبد. (1) للبنات الجميلات .. في مكاتب الأمن .. واللاجئين .. والصبية الضائعين .. بين صوت المغني .. وبين الكمين .. .. لم أكن متأكداً، ما حرض صوت (مدني)** على الانبعاث، لكنني رنمته، وصدى صوتي يتسلق في الوقت ذاته، مزيلاً قيثارة شفيفة: لأمي.. دارفور.. حين أنينها... للباعة التائهين.. للضائعين في (جاكسون)*** دون جدوى.. وأبناء الفداديات.. وأطفال الشوارع.. وكوم النائمين في الأرصفة.. إلى الذين قذفهم (الجسد) للغياب.. ها هو سقوطه مهداة إليكم.. يا حموضة العالم.. ثم أعود مذهولاً أشاهد أفوله، يسقط... ويسقط ببطء صوب فخ التراب.. وعيناه الحادتان تكاد تقفز من مخبأها.. ذاهلتان لأفولها.. وذبابات الغياب تلسع صيرورته.. «احتمى بشجرة خجولة»، لفظته.. ينظر وينظر والأرض تفتح أبوابها.. فينظر صوب الواقفين، المنهكين بوجوده، كان يتوقع هتافاتهم المفتعلة، لم يسمعوه النشيد، الشيء الذي جعله يغنيه وحده، وهو يتماوج في الفضاء، يطلق زفيراً متخمراً، يصرخ ويسب، وصوته الراعش يتكسر، غنى، نشدَ ترنيمته: (نحن جند الله...)، لكنه ما كان يعلم أنهم كفروا به، نظر المساحة لمرته الأخيرة، في الوقت الذي قررت فيه التراب التهامه بشبق جنوني.. لم تبتلعه الأرض.. «طحالب أرضية حمراء» ما فعل ذلك، نهشته، لقد انتظرت هذه اللحظة طويلاً، لتعلن شمس متوهجة اكتساح العالم، تغسل الجغرافيا بأشعتها الطاهرة، وتغني التراب، بعد حفريات أميبا الرماد