كآلة تعطلت ساعتها, يتحرك البلولة, ينتشل حقبية اليد من الملطم, متجها نحو الباب, تفاجئه الزوجة كحائط صد, تكلفه باحضار مشروب الضيافة. ساهمة في المباغتة عن يده تنتزع الحقيبة. يصل في ذات اللحظة عمال البناء, من استراحتهم. لم يلحظوا اثرا واضح لاحداث, إلا أن حوض المونة الفائح ادهشهم, جاد عليهم برائحة أناثية العطر, عالية النداء. فاتجهت مخيلة احدهم نحو العادات والتقاليد. ذاكرا أن للنساء ما يحفظنه من سبر, تعاويذ للتفاؤل. وقطعا رجح الشاب (ود العجائز ) ان امرأة البلولة قد عطرت الملطم نذرا للبخت. ثم يتزاحف الوقت بتفاصيل يومية. البلولة منشغلا بمراقبة البناء. تستدعيه الزوجة الى الداخل بلهجة مختلفة. تعرفه بالشابة, التي استعادت هيئتها الزورقية بل أكثر قليلا. بدوره اجاد المجاملة بحذاقة اراحت توترات الزوجة. ثم قرر ان يقتص بعض الشيء. رمي للشابة عبارة تفيد بأنه سوف يعوضها عن عطرها الذائب بالحوض. جعلها تبتسم بشيء من خجل, احتكت به اسنان الزوجة دون صوت, بينما تلامست رموشه تتابعا لفترة فوق الثانية. لتنتهى المواساة والتعارف, يمضون وتمضي الأيام. الشارع المشرق بالتحسينات, اكتملت حيويته بافتتاح بوتيك بالركن الايمن, يقابله مشتل صغير بالجانب الايسر. وقد امتلك الأول الشاب ود العجائز وكان المشتل لأحد معاشيي المنطقة. فبدأت الخضرة تدب على طول متنفس الحي عبر امتداداته, تحاور الجدران حديثة الطلاء. مما حفز الاناث المارة للتفاعل مع شأن الزينة بما يواكب المظهر المحيط. في أحد صباحات خروجه للعمل, لاحظت الزوجة انتفاخ جيبه بما لا يشبه المال. سألت مستفسرة، اجابها بما لا يفيد, اختار لهجة تشير لعدم رغبته في الاطالة, مسقطا عن يدها ملاعق اشباع الفضول. ولم يقل لها إنه الايفاء بالوعد. الذي قاده آخر اليوم للمرور على محال مبيعات العطور. حاملا قارورته الصغيرة. غنيمته من معركة لم يشهر بها سيفا ولا حتى سفروق. لم يكن العثور على طلبه مضنيا بين الارفف. انما كان الاجهاد يسكن, بما أوحت به هذه الجولة وفيما خطر. انشغل في لاحق أيامه, بحثا عن النبات العطري, ذلك المكتوب على ديباجة القارورة. حتى توصل إلى أنه صنف اشجار من بلاد بعيدة. وكان أن تبحر في خواصه, موائمته, محاولات سبقت لتوطينه ببلاد قريبة ولم يكتف. انتعشت صلاته بزملاء دراسة سابقين. منهم الآن من يعمل بمراكز بحوث الزراعة ومجال توريد البذور. كثرت مجالسته للمعاشي في مشتله. يقدره كمتسامٍ عن اريكة الشيخوخة. أصبح عريض الابتسامة في وجه ود العجائز, الاكسسوار الذي اضيفت له كلمة عطارة, وقد تمرد على الولاء المورث فى مهنة الآباء. استغرقه أمر الوعد الكبير. بينما ايصال الامانة الصغرى لم يأخذ من وقته شيئا, فطبيعة الشارع والناس تناولا وملاحظات, توفر لك ما توده دون طلب في نواحي الخبر. فقد عرف الكثير عن الفتاة الزورق, بسبب خروجها عبر الباب, تودعها الزوجة في ذاك اليوم. فمن رأى قد سأل عن قرابة أسرته بآل فلان, ساكني المنزل كذا, الذين لا ينظرون الى الأسفل, تعمل ابنتهم بتلك المؤسسة, كان خالهم رئيس لجنة الحي, أعوام مضت حينما انفجرت انبوبة الغاز بمنزل جارهم الترزي, وهكذا تحصل وتوصل البلولة الى أين, متي ستصل الامانة عرفانا لانعاش الحائط. حتى فاجئها يوما بدخوله مكتب شئون الافراد بمؤسسة عملها. تصادف وأن مكان عمله قريب منهم. لكن من غير الصدف أن يكون له معارف هنا عندهم. فهو من جيل يشغل معظمه الآن مواقع تنفيذية رغما عن المتشبثين, والفضل لثورة المعلومات. وبدعوى قرابة بينهما تمت مناداتها الى المكتب. وقد اكتست باحتشام صوري متقن الزيف. سألها عن أحوالها والأهل. فعلق جليسه بأنه لن يتفاجأ بأن لها جذور مجنونة. ضحك ثلاثتهم, فاضاف متسائلا: هل ما زلت تعتقد أن الصبر على السلبية فعل سلبي؟؟ أجابه: ماذا ترى انت؟؟, خرج ولم يوص عليها. قبل خطوات من باب الوداع سلمها الوعد, بادلته عبارات المجاملة. كان ثابتا وودودا, أكثر لها من قول شكرا. خرج تاركا اياها غارقة في الاندهاش, عاملها فقط كتحفة جديرة بالتأمل, ليس أبعد. يراها متمردة على التمويه, معتدة, محافظة على النوع في زمن التداخل. هي تحس بفرحة لا واعية . تدرك باطنا أن النساء والأبطال يتشاطران الدائرة في سلطة الالهام, اشاوس وفاتنات. كان مشروعه الاخضر قد ملأ عليه كل مساحات الشغف, اجتذب طاقته أقام في جوانحه. أصبح متفائلا بغاية اتضحت معالمها. في انشراح من اضيئت له خبايا حياة عصيت على اعتى المصابيح. بصحبة المفاكر. كانا كتلة من اشراق, تآنس, الفة, تقاطعات, تبادل, انفعال شبه منفلت. ولأول مرة تنقضي ساعة كاملة دون تدوين. الحدائق بنجائلها, مقاعدها شجيراتها تغازلهما في خضوع. تبدأ دفقات خفيفة من المطر, يشرع البعض بالانسحاب. ازدادت غزارة, الكل يهرع لدفئه, يبقيا, يشكلا لوحة الحيوية, برفقة المكان في هذه اللحظة من عمر المدينة. أرواح ثائرة تتجاوز قيد الهندام, متاعب الوحل, هواجس الربو. خلال هذا الشغب انتفت الكياسة, حلت الفوضى. استلف المفاكر خواص خارج عالم الانسان. فاجتر والفم مغلق ,ايام الحبس الاجتماعي, المداواة القسرية لانفعاله المهيب المترجم باللهب. كان قد اكتسب لامسامحات باكية. ادانته دون شفقة. كيف اشتملت ضحايا حريقه على ما هوعزيز, ممنوع من الازالة والنقد. لكنه يبطئ اجتراره وينظر للبلولة, الذي كان الالتقاء به لن يتم لو لا والا. فكما لكل حريق اثر كربوني, فان لكل مشعل متعة نارية, في اللحظة ونتائج لاحقة . وكانت اجمل منعطفات الحياة, مفاكرة ثمارها تنتظر. حسب قوانين الخدمة المدنية, المعنية بما يعنيها فقط, كان لابد للبلولة من خيار الاجازة غير المدفوعة. وفي زمان اصبح به العقار شأن مقدس, تزندق البلولة ,استغني عن ارث يخصه , مقابل تسييل علني لحلمه المتجمد. استورد البذور منقطعا لمشتله بأطراف المدينة. شارعا في التجريب متوسدا علوم الانبات وملحقاتها. إلى أن توصل للجنين الامثل في تجانس المهاد. من خليط تربة, جرعات ري خلال مناخاتنا المتفردة. وقد وضع الخطط, البدائل وعموم التصور. لتكن شجرته الفكرة, هي الاوسع انتشارا, لا ينافسها الا التراب. هي التغير المنتظر. بتنفسها ومطالعتها, ينهزم سالب الطباع والعادات المقعدة, يرتقي التفكير. البلولة يصعد ببالونات آماله مودعا خنادق الاحباط. وهو الذي سبق أن تكهف، تصحر, غرق واستفاق, لسعته كائنات دقيقة من ادغال ازمتنا. حتى استجم قليلا عبر لقائه القدري بالمفاكر. الذي ينظر للبلولة الآن كملاك تجنن يبعثر فخار جرته, دموع ثائرة تفر أمامها بقع الخنوع. حجر يصارع المجرات, في تحول كوني. في البدايات, كانت محادثاتهما قصيرة. إلى أن اتى اليوم الأخير للمفاكر بين محاليل المشفي. فاستطال الحوار. ابتعثا حياتيهما في طرح حقيقي. تبادلا المكنونات, اشارات عميقة خلال صراحة مكتملة العري. إلا أن المفاكر احتفظ بتفاصيل مرجعياته بما يصب في صالح الحلم المشترك. وقد لخص لصديقه ملحقات مفادها, إن البدايات الضخمة موبوءة, المشاريع الكبيرة دافع للحياة. ليخبره أن توازن العالم ,الذي يعني تغييرنا, هو لوحده هم كبير ,بينما سيتكفل هو (المفاكر) بأمر المجهول. واذا يجتر حين مطر, سابق الأحداث. يذكر استيقاظه قبيل الفجر يوما, الأفكار كانت متزاحمة, تهاجم رأسه, تكاد تفتك بالشعيرات, حتى احتله صداع ابري الوخذات, توقظه الافكار بوصيفات وفية من قصور بناتها. وهي تتلو عليه, مأثر حول سهول الصبر ومخروط السكنوت. ينتبه يفتح فمه مودعا الاجترار. الآن يقف امامه البلولة تحت زخات المطر, يواجهه باستفهام. العيون تتبادل اشعتها المتوازية ,في استقامة تتضاءل أمامها فتنة الليزر. رأى البلولة دنيا منشودة تفيض بها مقلتا صاحبه. بينما امتلأ بصر المفاكر بحراك يصول فى واحة نظر البلولة, يحدث عن احتفال متجاوب, في عظمة حالة ما بعد الطوفان وقد هشت به عناصر السكنوت, كما لم يحدث من قبل. وبما انهما يعايشانها أولى أمطار العام, فقد تنشقت الأنوف بهما, شيئا من دعاش نهايات عصر الجليد.