وأنا أشرع في كتابة هذه الورقة، تبادر إلى ذهني سؤال حول الأدب، سؤال قد يبدو قديماً قدم الأدب ذاته، طرح ملايين المرات، كثيراً، وبمختلف الطرق والأساليب؛ يتعلق بدور الأدب، بمعناه وأهدافه ومراميه. الإجابة عن هذا السؤال أعتقد أنها المفتاح الذي يقود إلى الأدوار المفترضة للأدب في علاقته بالمهمشين واللامنتمين والمنسيين مجتمعياً، وهو مدخل للإجابة عن أسئلة من شاكلة: (هل تناول هذه الفئات أو قضايا وإشكالات هذه الشرائح المجتمعية المغيبة يقود إلى حلول لأزماتها أو هو – أي الأدب – قادر على تسليط الضوء على هؤلاء المغيبين في أدنى درجات التقسيمات المجتمعية وأكثرها تهميشاً)؟ محاولاتي في الإجابة عن ماهية الأدب وأدواره المفترضة قادتني إلى أن الأدب وفي كل العصور التي مرت بها البشرية لعب دوراً أساسياً وفاعلاً في شحذ النفس البشرية وإلهامها ودفعها صوب التغيير والانتقال بها من حافات اللاوعي إلى عمق المعنى، الذي توجده حالة شعورية جمالية تتولد هي ذاتها من صدمة الأسئلة المصيرية (الوجودية - الإنسانية) التي تخلقها الدفقة الأدبية الجمالية حين يكون الأدب (الفن) أدباً أصيلاً وخالصاً وإنسانياً. إذن أنا أؤمن بقدرة الأدب على التأثير الإيجابي، وقدرته على زرع بذرة التغيير داخل النفس البشرية، وقدرته على خلق حالة تواصلية إنسانية تجعلني أحس ب(الإنسان) وإن فصلتني عنه مكانياً بحار ومحيطات وقارات. فألم الإنسان، مأزقته وتهميشه ومحاولات سحله، في معناها وبعدها الشعوري، هي حالة (إنسانية) واحدة، يتوحد عندها البشر، تصفو فيها النفس البشرية وتشفّ ويتكثف بها الوعي ويتشكل في صيغة سؤال يبدأ ب(لماذا)؟ وينتهي ب(كيف)؟ والأدب طريق يسير وقريب لخلق هذه الوحدة الشعورية التي تقود إلى سؤال المعنى، سؤال الإنسان. بعد هذه المقدمة القصيرة التي قادني إليها تساؤلي عن دور الأدب أو معناه، سأدلف إلى تساؤل آخر يتعلق بالكاتب - الأديب، وعلاقته بهذه المجتمعات المتجاوزة عمداً، وكيف يمكن للكاتب أن يصبح متحدثاً باسم هؤلاء المجهولين، الفوضويين، وحياتهم المفككة (المهشمة)، ومن أين يحصل على مادته الأدبية؟ أعتقد أن الأدب، واسمحوا لي بمساحة من التخصص أو التجنيس، وبالطبع سأختار الرواية لأنها الحقل الذي أشتغل فيه أدبياً؛ إذاً أعتقد أن الكاتب الروائي حين يشرع في الاشتغال على عمل روائي جديد، تقوده مشروطية الموضوع (وهنا لا أتحدث عن الرواية الجمالية- الفلسفية أو المتشيّئة)، الملزمة بملء بنائه الجمالي؛ إلى البحث عن غايات إنسانية تسهم في خلق حالة شعورية تنسجم مع جمالية اللغة والتشييد. هذا البحث المستند على الروح الإنسانية، في رأيي يقود الكاتب إلى الغوص في قضايا مجتمعه والتنقيب في إشكالات ومآزق هذا المجمتع، ما يقود بدوره إلى الالتفات لهذه المجموعات المنسية، المطحونة والمهمشة. وبما أن الرواية – بحسب رؤيتي - هي سؤال في المعنى والوجود، لا يجد الكاتب مناصاً من الانحياز إلى هذه الشرائح والفئات – قد يكون منبثقاً منها – والتعبير عنها وعن حقها في إيصال صوتها وأهميتها – كوجود إنساني – يستحق حياة أفضل تجعله متساوياً مع الآخرين؛ الذين يعبرون يومياً من فوق فوهة حفرته دون أدنى محاولة لإلقاء مجرد نظرة عليه. هذا الغوص – الأدبي الإنساني- الذي ينبني في الأساس على محاولة التعرف، الفهم، الاقتراب، ثم الإحساس؛ يخلق لدى الكاتب حالة من التماهي الإنساني، أو الذوبان الشعوري، إذ يجد نفسه وقد تحول إلى كتلة شعورية تحس بآلام ومآسي هؤلاء، وهذا ما يقوده إلى سكبهم – إشكالاتهم – جمالياً في منجزه الروائي بالشكل الذي يدفع الآخر – المتلقي – إلى الإحساس بوجودهم والانتباه إلى أن ثمة أشخاصاً، إنساناً آخر محروماً ومهمشاً ومنسياً، يحيا قريباً من هنا، وإن كانت (هنا) هذه هي (الخرطوم)، والقارئ موجود في (باريس). لكن التغيير الأكبر الذي يمكن أن يخلقه الكاتب – منجزه الأدبي أو الروائي – يتمظهر لدى هذه الفئات – المهمشة - بصورة أكبر، وذلك بدفعها إلى طرح سؤال المعنى على ذواتها، وإلى تحسس قاع القذارة والتهميش الذي وجدت نفسها تسبح في أوحاله دون سؤال عن إمكانية إزالته وقبره وتغييره. لكن.. كيف يمكن للأدب أن يمنح صوتاً لهؤلاء الذين لا صوت لهم؟ هذا سؤال قد يتبادر إلى الذهن أثناء اشتغاله على فكرة ارتباط الأدب بالقضايا الاجتماعية، لاسيما قضايا (المهمشين)، فالأدب الروائي - مثلاً - يبدو وكأنه يستند على هذه الموضوعات باعتبارها (مادة خام) يستفيد منها في بناء معماره الروائي، ومن ثم تتحول هذه الموضوعات إلى مادة فنية مُنسجنة بين دفتي كتاب بشخوصها وأحداثها وأمكنتها ومآسيها، كتاب يُقرأ في ظرف ساعة أو يوم ثم ينسى. هذا يبدو ظاهرياً وسطحياً، لكن في العمق؛ سنكتشف أن هذه الشخصيات وبما تمثله من انعكاس فني – أدبي لأشخاص حقيقيين منزرعين حقيقة في أرض المأساة؛ أنها - أي الشخصيات الروائية – ستتحول إلى علامات دالة تشير عند كل قراءة إلى الواقع الحقيقي الذي تحياه هذه الشخصيات الحقيقية في أرض مأساتها البور. هنا وبهذه الطريقة الأدبية ذات الأثر الجمالي الموحي يصبح الأدب صوتاً وعلامة تذكر أبداً بالوجود اللا مرئي لهذه الفئات المغيبة والمنسية. كما إننا كقراء وكتاب غير منتمين لهذه الفئات التي تعاني التهميش والإقصاء الاجتماعي، وأساليب الحياة المختلفة، حين نجدها منعكسة بامتياز من خلال الأدب الجيد؛ يتسنى لنا – حينها - معرفة ذواتنا، أن نرى ما بداخلنا من مساحات تتقبل هذا الوجود المخفي، وأن نتحسس واقعنا، وأن نُوَاجِه بمواجهة أنفسنا وحقيقة موقعنا من هذا الواقع؛ تحسساً يقودنا إلى المعرفة، ومعرفة تقودنا إلى مواطن الخلل ومحاولات تغييره وإصلاحه. وفي بلد مثل بلدي (السودان)؛ بلد ظل يعاني لمدى عقود طويلة من الحروب الطاحنة والأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية المتفاقمة، ما أوجد حالة مستمرة ومتوالية من عدم الاستقرار المجتمعي، وقاد ويقود إلى خلق (إنسان) يفتقد إلى أبسط مقومات الإنسانية؛ في بلد مثل هذا، أعتقد، يصبح لزاماً علينا أن نسهم في محاولات إيقاف النزف المستمر والانهيار المتتابع، كلٌّ من موقعه وبأسلوبه وطريقته، أما الصمت فيصبح إدانة ووصمة أبدية. أخيراً اسمحوا لي أن أتحدث عن تجربتي الخاصة في الكتابة حول هذه القضايا، وعن هذه الفئات المجتمعية التي تعاني التهميش، وأن أطرح على نفسي ذات التساؤل، وهو: هل نجحت هذا الكتابة في تسليط الضوء على هذه الفئات، وبالتالي أسهمت ولو بالقدر القليل في إبراز هذه القضايا إلى سطح الواقع المتعالي عليها؟.. كتبتُ رواية بعنوان (ذاكرة شرير)، تناولت في موضوعها قضية أطفال الشوارع، وقضايا المعوقين والشحاذين والمشعوذين...، بصورة عامة كانت الرواية مسحاً كاملاً لفئات مجتمعية تحيا في قاع المجتمع دون أن ينتبه أو يلتفت إليها نصف المجتمع الذي يحيا في دائرة الضوء. الرواية نجحت -كعمل روائي- ووجدت حظها من النشر والترجمة، وتناولتها الأقلام النقدية. هذا النجاح الذي أزعمه رافقه نجاح آخر تمثل في الدور الذي بدأت تلعبه الرواية في تسليط الضوء على قضايا أطفال الشارع (الشماسة، كما يسمون في السودان)، وقضايا المعوقين، إن كان ذلك على مستوى القراءات الأكاديمية أو الدراسات النقدية أو الدراسات الاجتماعية المرتبطة بورش العمل التطبيقية، أو على مستوى القراء غير المتخصصين، الذين أشار بعضهم إلى أنهم ولأول مرة بعد قراءتهم للرواية انتبهوا إلى صور أطفال الشارع التي كانت تعرض أمامهم يومياً وعلى مدى سنوات، انتبهوا وأحسوا بالتعاطف والحب، حتى إن بعضهم أطلق أسماء شخصيات الرواية على شخوص الواقع المسحوقين. قدمت هذه الورقة في المنتدى العالمي السادس حول الرواية بمدينة ليون بفرنسا، الذي نظمته مؤسسة فيلا غليه بالتعاون مع الملحق الثقافي الأسبوعي لصحيفة (لوموند) الفرنسية.